النقاط الرئيسية
- انخفاض مشاهدات ويكيبيديا بنسبة 8% نتيجة صعود روبوتات الدردشة والملخصات التوليدية.
- مارشال ميلر يحذر من تراجع التمويل والمتطوعين إذا استمر النزيف المعرفي.
- الحل يكمن في شراكات ذكية تربط بين المحتوى المفتوح والذكاء الاصطناعي دون الإضرار بمبدأ الحرية.
ويكيبيديا أمام تحدٍ وجودي
في منشور لافت على مدونة مؤسسة ويكيميديا، كشف مارشال ميلر، المدير الأول للمنتجات، عن مؤشرات مقلقة تُظهر انخفاضًا في مشاهدات صفحات ويكيبيديا بنسبة 8% على أساس سنوي.
السبب، كما يقول، يعود إلى روبوتات الدردشة التوليدية ومحركات البحث الجديدة التي باتت تُقدّم إجابات فورية للمستخدمين، غالبًا مبنية على محتوى ويكيبيديا ذاته — من دون أن يُضطر القارئ لزيارة الموقع الأصلي.
ورغم أن الانخفاض يبدو رقميًا بسيطًا، إلا أن دلالاته أعمق بكثير:
إذا استمر هذا التراجع، قد يواجه الموقع الذي شكّل لعقود مرجعًا للمعرفة المفتوحة أزمة وجودية تمس جوهره: قلة الزيارات، انخفاض عدد المتطوعين، وتراجع التمويل الذي يعتمد بالكامل على التبرعات.
معضلة “المصدر غير المرئي”
يُعدّ محتوى ويكيبيديا العمود الفقري للذكاء الاصطناعي التوليدي. فمعظم روبوتات الدردشة، من ChatGPT إلى Gemini، تبني إجاباتها استنادًا إلى هذا المستودع الضخم من المقالات الموثقة.
لكن المفارقة أن هذا المصدر لا يُذكر غالبًا بوضوح، فلا يعرف المستخدم من أين جاءت المعلومة، ولا تحصل ويكيبيديا على أي فائدة مباشرة من ملايين الاستعلامات اليومية التي تمر عبر خوادم الذكاء الاصطناعي.
هنا تكمن الأزمة:
تُستنزف المعرفة دون أن يُعاد ضخ الحياة في مصدرها.
نحو شراكة متبادلة لا استهلاك أحادي
المخرج لا يكون في المواجهة، بل في بناء نموذج شراكة متوازنة. فيما يلي بعض الاقتراخات العملية لآلية تضمن بقاء ويكيبيديا حاضرة في عصر الذكاء الاصطناعي:
1. اتفاقيات مشاركة البيانات
على غرار ما فعلته OpenAI مع مؤسسات إعلامية كـ Axel Springer وAssociated Press، يمكن إنشاء اتفاق رمزي بين ويكيميديا وشركات الذكاء الاصطناعي، ليس بالضرورة ماليًا، بل قائمًا على الاعتراف بالمصدر وإرجاع المستخدم إليه مباشرة.
2. نموذج التضمين التفاعلي
يمكن تطوير واجهة مشابهة لآلية تضمين فيديوهات YouTube، بحيث تظهر المعلومة داخل واجهة روبوت الدردشة في مربع تفاعلي مأخوذ من ويكيبيديا، يسجّل للموقع زيارة حقيقية عند التفاعل.
هذا الحل يحافظ على تجربة المستخدم ويُعيد التدفّق الرقمي إلى المصدر.
3. نظام “تبرع ذكي”
رغم أن ويكيبيديا منظمة غير ربحية، إلا أن تشغيلها يعتمد على تمويل ضخم من التبرعات.
يمكن لشركات الذكاء الاصطناعي تخصيص ميكرو-تبرعات تلقائية عند استخدام بيانات ويكيبيديا — أشبه بنظام “royalties معرفية” تضمن استدامة المشروع.
4. أدوات ذكاء اصطناعي داخل ويكيبيديا
بدل أن تصبح منافسًا، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون محررًا مساعدًا داخل الموسوعة، يقترح المراجع، يصحح الأخطاء، ويكشف الانحيازات، مما يرفع جودة المحتوى ويقلل الجهد البشري دون أن يلغيه.
المعرفة الحرة في عصر الذكاء الاصطناعي
قد يبدو الصراع بين ويكيبيديا والذكاء الاصطناعي معركة بين القديم والجديد، لكنه في جوهره صراع على بقاء الموثوقية في عالم السرعة.
إذا تراجعت الزيارات إلى ويكيبيديا، سيتراجع معها التفاعل التطوعي، وستفقد الشبكة العالمية أحد آخر معاقل الشفافية والمصادر المفتوحة.
لكن إذا اختارت الأطراف التعاون بدل التنافس، فقد يُعاد تعريف العلاقة بين “الذكاء” و“المعرفة”:
ذكاء اصطناعي يستند إلى مصدر شفاف، ومصدر مفتوح يستفيد من الذكاء الاصطناعي لتجديد ذاته.
ذلك هو جوهر الشراكة المستقبلية بين ويكيبيديا والذكاء الاصطناعي —
شراكة لا تُعيد بناء موسوعة فقط، بل تحفظ ذاكرة البشرية في زمن تُعاد فيه كتابة الحقيقة بخوارزميات.
رؤية شخصية
من منظوري الشخصي، ما يحدث بين ويكيبيديا والذكاء الاصطناعي ليس مجرد أزمة مرور أو نسب زيارات، بل تحول فلسفي في بنية المعرفة البشرية.
لقد انتقلنا من الإنترنت الذي يعتمد على “الروابط” إلى الإنترنت الذي يصنع “الإجابات”. وفي هذه النقلة تختفي الهوامش والمراجع، ويُصبح المصدر خلف الستار.
لكننا نؤمن أن الحل لا يكمن في مقاومة الذكاء الاصطناعي، بل في تدريبه على احترام المصدر — على أن تكون كل إجابة، مهما كانت دقيقة أو توليدية، موصولة بجذورها الإنسانية: الكاتب، المراجع، والمحرر الذي وضع حجر الأساس للمعرفة الحرة.
المستقبل لن يكون لصاحب الخوارزمية الأقوى، بل لمن يحافظ على أمانة المعلومة في زمن تختلط فيه الحقيقة بالاحتمال.



