منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، ظلّت أوروبا تعيش حالة من القلق الوجودي. ومع أن الحرب لم تخرج بعد عن حدود أوكرانيا، إلا أن التصريحات المتصاعدة من موسكو وواشنطن جعلت القارة العجوز تتساءل: هل أصبحت بالفعل على أعتاب حرب جديدة مع روسيا؟
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حذّر الأوروبيين قائلاً: “سيتم جركم إلى هذا النزاع رغماً عنكم، ولن يكون لديكم الوقت حتى لرمش أعينكم عند تفعيل البند الخامس من معاهدة الناتو”.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن المادة الخامسة من معاهدة الناتو تنص على أن أي هجوم ضد دولة عضو يُعتبر هجوماً على جميع الأعضاء، مما يجبر الحلف على الرد الجماعي. وقد فُعِّلت هذه المادة مرة واحدة فقط في التاريخ بعد هجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة.
في المقابل، الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي كان قبل فترة يشكك في جدوى الدفاع عن أوكرانيا، بدأ يتحدث عن روسيا باعتبارها الخاسر الأكبر في الحرب. هذا التناقض في المواقف الأميركية يترك أوروبا في مواجهة مصير ضبابي.
الناتو بين الانقسام والضغوط
طوال عقود، كان حلف الناتو هو الضمانة الأمنية الأولى لأوروبا. لكن الخلافات الداخلية باتت اليوم أكثر وضوحاً:
- بعض الدول، مثل إسبانيا، ترفض زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي كما تطالب واشنطن.
- ترامب يلوّح باستخدام ملف الناتو كورقة تفاوض انتخابية.
- بوتين يختبر الحدود الحمراء عبر ما يُعرف بـ التصعيد تحت العتبة: خروقات جوية، مناورات عسكرية، وتلويح دائم بالنووي.
مناوشات البلطيق: رسائل مقلقة
حادثة اختراق ثلاث مقاتلات روسية من طراز “ميغ 31” للأجواء الإستونية مؤخراً أثارت عاصفة سياسية في أوروبا.
الخبير الإستوني إيريك نيلز كروس وصف الحادثة بأنها الأخطر من نوعها، لأنها لم تكن مجرد خطأ ملاحي، بل استعراض قوة في توقيت حساس بعد تقدم أوكراني ميداني.
هنا يبرز سؤال: هل تسعى موسكو إلى التعويض عن خسائرها عبر استفزاز الأوروبيين، أم أن الأمر مجرد صدفة؟
النووي.. فزاعة أم تهديد حقيقي؟
بوتين لم يخفِ تهديداته قائلاً: “أسلحتنا النووية التكتيكية أقوى بأربع مرات من تلك التي ألقتها أمريكا على هيروشيما وناكازاكي”.
مثل هذه التصريحات تُستخدم كورقة ضغط نفسية، لكنها تعكس أيضاً استعداد روسيا لاستخدام لغة الردع في مواجهة أي اقتراب من حدودها السيادية.
ومع كل استفزاز جديد، تتآكل قناعة الأوروبيين بأن “لا حرب عالمية جديدة” ستندلع على أرضهم.
أوروبا في مفترق طرق
المعادلة اليوم معقّدة:
- لا توجد مؤشرات مؤكدة على اندلاع حرب شاملة قريباً.
- لكن تكرار الخروقات الجوية وحوادث الطائرات المسيّرة في بولندا وإستونيا يجعل من الصعب اعتبارها مجرد حوادث عرضية.
- الضغوط الداخلية في أوروبا تتصاعد مع ارتفاع تكاليف الحرب على أوكرانيا وتنامي الأصوات المطالبة بالتصعيد لا بالاكتفاء بالإدانة الدبلوماسية.
الخلاصة: حرب نفسية طويلة الأمد
الأرجح أن أوروبا ليست على وشك حرب مباشرة مع روسيا الآن، لكن ما يحدث هو حرب استنزاف نفسية وعسكرية.
موسكو تختبر صبر الأوروبيين وقدرات الناتو، فيما واشنطن ترسل إشارات متقلبة بين التشكيك والدعم.
ومع ذلك، يظل الخطر الأكبر ماثلاً: أن يتحول خطأ صغير أو استفزاز محسوب إلى مواجهة لا تُحمد عقباها.
المصادر التي تم الاستناد إليها:
- تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (وكالات الأنباء الروسية الرسمية – تاس، نوفوستي).
- خطابات الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الأمم المتحدة (رويترز، أسوشيتد برس).
- تقارير مجلة Estonian World ومقالات الخبير الأمني إيريك نيلز كروس حول الخروقات الجوية الروسية في البلطيق.
- تصريحات الباحث الأمني النرويجي ياكوب جوزيميرسكي (وكالة رويترز).
- “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” (CSIS).
- بيانات الناتو الرسمية حول المادة الخامسة.
الأسئلة الشائعة
1) ما هي المادة الخامسة من معاهدة الناتو باختصار؟
تنص على أن أي هجوم مسلح على دولة عضو يُعد هجوماً على جميع الأعضاء، ما يستدعي رداً جماعياً للدفاع عن الدولة المستهدفة.
2) هل فُعِّلت المادة الخامسة من قبل؟
نعم، مرة واحدة فقط بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة.
3) هل يعني تفعيل المادة الخامسة حرباً شاملة تلقائياً؟
ليس بالضرورة. يتيح البند لكل دولة اختيار شكل المساهمة الدفاعية (عسكرية، لوجستية، استخباراتية…) وفق قدراتها وقراراتها السياسية.
4) ما المقصود بـ“التصعيد تحت العتبة” الذي تُنسبه تحليلات لأفعال روسيا؟
هو إجراءات استفزازية أو ضغط عسكري/أمني تبقى دون مستوى الحرب المباشرة، بهدف استنزاف الخصم واختبار ردعه دون إشعال مواجهة شاملة.
5) لماذا يُقلق الأوروبيين تكرار الخروقات الجوية أو حوادث المسيرات؟
لأنها ترفع احتمال سوء التقدير أو الاحتكاك غير المقصود الذي قد يدفع نحو تفعيل المادة الخامسة بشكل سريع.
6) ما علاقة الردع النووي بخيارات أوروبا والناتو؟
التهديد النووي يجعل كلفة أي مواجهة مباشرة باهظة جداً، لذلك يفضّل الطرفان إدارة الصراع بأدوات الردع والضغط غير المباشر.
7) كيف يؤثر الانقسام الأوروبي حول الإنفاق الدفاعي على الردع؟
الخلافات تُضعف مصداقية التزامات الحلف وتُربك الرسائل الرادعة، ما يشجّع الخصم على اختبار الحدود الحمراء بوتيرة أكبر.



