لماذا أثار اختيار بودابست كقمة بين ترامب وبوتين جدلاً قانونياً ودبلوماسياً؟

قمة منتظرة وسط تحديات غير مسبوقة

في ظل حرب ضارية بين روسيا وأوكرانيا تستمر منذ سنوات، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن عزمه عقد قمة جديدة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة المجرية بودابست. الهدف المعلن: بحث سبل إنهاء الصراع. لكن الإعلان سرعان ما تحوّل إلى بؤرة توتر قانوني ودبلوماسي، لأن بوتين يواجه مذكرة توقيف صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية (ICC) تتعلق بارتكابات خلال الحرب في أوكرانيا.

اختيار بودابست جاء بعد فشل القمة السابقة بين ترامب وبوتين في ألاسكا في التوصل إلى اتفاقات ملموسة.

لكن السؤال المحوري أصبح: كيف سيصل بوتين إلى المجر، وما هي التنازلات التي قد تُقدم دول منافية للالتزام باحتجازه؟

المسارات المحتملة لوصول بوتين — بين أخطار الاعتقال والتحايل الدبلوماسي

▪️ مسار قصير (≈ 3 ساعات): عبر روسيا → بيلاروسيا → أوكرانيا

هذا الطريق نظريًا هو الأقصر، لكن عمليًا مستبعد جدًا، إذ يعني عبور أجواء أوكرانيا التي تشهد نزاعًا مسلحًا، مما يعرض الطائرة لمخاطر التصادم أو الاستهداف.

▪️ مسار متوسط (≈ 5 ساعات): روسيا → بيلاروسيا → بولندا → سلوفاكيا → المجر

هذا المسار يمر عبر دول مثل بولندا وسلوفاكيا، وهما أعضاء في الناتو وملتزمتان باتفاقيات المحكمة الجنائية الدولية. لذا من الناحية السياسية، يُعد الخيار خطيرًا — قد تلجأ تلك الدول إلى الاعتراض أو حتى توقيف الطائرة.

▪️ مسار طويل (≈ 8 ساعات): عبر تركيا والبحر المتوسط ثم إلى البلقان وصربيا

هذا المسار يبدو الأكثر احتمالًا لأنه يتجنب الأجواء المعادية المباشرة. فتركيا لا تنتمي إلى المحكمة الجنائية الدولية، وصربيا على علاقة مستقرة مع موسكو. هذه السلسلة من التحايلات تجعل الفرصة الأكبر لموكب الطائرة الروسي لتفادي الوقوع في أراضٍ قد تجبره على التوقف أو الاعتقال.

باختصار، يبدو أن الخيار الأطول — وإنه يتطلب موارد لوجستية عالية — هو الأكثر واقعية لتأمين دخول بوتين دون أن تواجهه الإجراءات القانونية المفترضة عند الحدود الأوروبية.

موقف المجر وضمانات السلامة لبوتين

علّق وزير الخارجية المجري بيتر سيارتو على الأمر بالقول إن بلاده ستضمن دخول بوتين إلى أراضيها، وتوفير الأجواء المناسبة للمفاوضات، ثم عودته إلى موسكو بأمان. وأضاف أن المجر لا ترى ضرورة استشارة أي طرف في هذا الشأن، معتبرة أنها دولة ذات سيادة.

من جانبه، قال رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان إن الاجتماع قد يُعقد خلال أسبوعين إذا نجح وزراء الخارجية في حل المشكلات العالقة. كما أشار إلى أن القمة ستركز على السلام، وأن أي اتفاق نهائي قد يفتح الباب لتنمية اقتصادية ليست في المجر فحسب، بل في أوروبا بأسرها.

لكن تصريحات أوربان جاءت في ظل التوتر المستمر مع أوكرانيا، إذ اتهم الاتحاد الأوروبي بأنه متحيز للحرب، وانتقد قرارات المساعدات العسكرية ل كييف، وهو نهج أثار جدلاً كبيرًا داخل الاتحاد.

المأزق القانوني: الالتزام بحقوق المحكمة أم المصلحة السياسية؟

المعروف أن بوتين مُدان بمذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية منذ مارس 2023 بتهمة تهجير الأطفال الأوكرانيين إلى روسيا خلال الصراع.

من الناحية القانونية، الدول الأعضاء في المحكمة، ومنها المجر حاليًا، ملزمة باعتقال شخص موضوع توقيف حال دخوله الأراضي الوطنية أو مجالها الجوي. لكن المجر أبدت رغبة في الانسحاب من الميثاق الذي يؤطر اختصاص المحكمة، وهي في مرحلة إنهاء العضوية، لكن الانسحاب لم يسري بعد بشكل فعلي.

حتى لو كانت المجر فنياً لا تزال ملزمة بالتعاون، فإنه من الواضح أن الحكومة تتجه نحو تجاهل تلك الالتزامات. كما أن المحكمة ليس لديها قوة تنفيذ حقيقية — فهي تعتمد بشكل كامل على التعاون الطوعي للدول.

وبالتالي، فالوضع القانوني يصطدم بالواقع السياسي، خاصة في ظل العلاقات التي تربط المجر بروسيا وروسيا بالمجر، إضافة إلى الأساسات التي يبنيها أوربان في سياسة خارجية أقل اتكالًا على التماشي مع التكتّل الأوروبي.

بين الدبلوماسية والتسويات المشبوهة

إن اختيار بودابست كموقع للقمة بين ترامب وبوتين يحمل دلالة سياسية أقوى من أي مكان آخر في أوروبا. فالمجر، تحت قيادة أوربان، تموضعّت كمنصة تلاقٍ تتحدى مواقف الاتحاد الأوروبي، وتدعم فتح قنوات مع موسكو رغم الضغوط الغربية. هذا يمنح اللقاء طابعًا رمزيًا: إما ضربة رمزية لوحدة أوروبا، أو محاولة لإعادة تشكيل خارطة التحالفات في القارة.

من الناحية العملية، نجاح القمة يعتمد على ما إذا كان بوتين سيقدم تنازلات حقيقية أو يكتفي بحوار شكلي يُستخدم لتسويق مخرج روسي من النزاع. أما ترامب فمن المتوقع أن يستغل هذه المبادرة لتسويق نفسه كصانع سلام، لكنه في الوقت نفسه يواجه انتقادات ومعارضة داخلية ودولية لأي تقارب يُنظر إليه كتنازل عن دعم أوكرانيا.

من الأمثلة العملية التي قد تلوح في الأفق: إذا أقر بوتين انسحابًا من بعض المناطق أو وقفًا مؤقتًا لإطلاق النار، فستُعرض هذه الخطوة على الإعلام على أنها “انتصار دبلوماسي”. لكن إذا لم يُفضِ اللقاء إلى اتفاق ملموس، فستُعَدّ القمة مجرد “بروباغاندا” سياسية لأطراف عدة.

الأرقام مهمة هنا: المحكمة الجنائية الدولية لديها أكثر من 60 مذكرة توقيف معلقة، لكن عدد القادة الذين نُفذت بحقهم تلك المذكرات قليل للغاية، بسبب ضعف أدوات التنفيذ والاعتماد على تعاون الدول.

إذًا، نرى أن الحدث هو أشبه بلعبة استراتيجية ضخمة، حيث تتماهى الدبلوماسية مع المراوغة القانونية، والسياسات الكبرى مع التوازنات الصغيرة.

المصدر:

رويترز، AP News، اليورونيوز، ميديا تحليلية