إعلان

في أزمنة القمع، لا تملك الشعوب الكثير من الأسلحة. لكن هناك سلاحًا يظل متاحًا دومًا: النكتة. قد لا تملك القدرة على خوض معركة، لكنك تستطيع أن تُضحك الآخرين على من يظلمهم، فتوقظ وعيهم وتحرّك مشاعرهم. وهذا بالضبط هو دور النكتة في إسقاط الطغاة.

السخرية.. قوة لا يُستهان بها

منذ القدم، كانت النكتة أداة ذكية يستخدمها الناس لتصوير الواقع، والتنفيس عن الألم، والسخرية من الظلم. مثلًا، المثل العربي “جنت على أهلها براقش” يحكي قصة كلبة كشفت مخبأ قومها للأعداء بنباحها، فكانت سببًا في هلاكهم. يشبه هذا تمامًا إطلاق نكتة غير محسوبة في وقت خطير. لكنها، في أحيان أخرى، تكون أداة وعي شعبي حاد تهز أركان الطغيان.

تطور النكتة إلى أداة مقاومة

مع تطور وسائل التعبير وتراجع انتشار الأمثال التقليدية، برزت الطرفة أو النكتة الساخرة كوسيلة أكثر حيوية وسرعة للانتشار. أصبحت تعبر عن نبض الشارع، وتوثق الأحداث، وتفتح بابًا للسخرية من الجلاد.

الفيلسوف إليوت أورينغ يرى أن:

“التهكم ليس مجرد ترفيه، بل أداة فكرية خطيرة، والدليل أن الأنظمة الاستبدادية تفرض رقابة على النكت السياسية والعرقية”.

إعلان

في بعض الحالات، كانت النكتة سببًا مباشرًا في مصير مأساوي. مثلما حدث مع الفيلسوف “ثيوكريتوس دوشيوس” الذي قال ساخرًا إن عفو الملك الأعور عنه “مستحيل لأنه لن يراه بعينيه”، فحكم عليه بالإعدام.

حين تسقط الأنظمة على وقع نكتة

من أبرز الأمثلة المعاصرة، ما قاله بشار الأسد عندما سأله أحدهم عن احتمال لقائه بالرئيس التركي أردوغان، فأجاب ساخرًا:

“هل ألتقيه لنشرب المرطبات مثلًا؟”

كانت البلاد في حالة دمار، والدماء تُراق، بينما يتحدث الرئيس بلغة سخرية منفصلة عن الواقع. هذه الجملة تحوّلت إلى أيقونة للسخرية من نظامه، وساهمت في إشعال الغضب الشعبي، وانتشرت بقوة على منصات التواصل الاجتماعي، لتصبح واحدة من أسوأ النكات السياسية في القرن الحادي والعشرين.

ولم تمر النكتة مرور الكرام، بل رافقت انهيار النظام في مناطق عديدة، وشكّلت رمزًا لانفصاله عن شعبه، حتى لحظة فراره من البلاد.

حين تغيب العقول في لحظة السقوط

لا يمكننا الحديث عن دور النكتة في إسقاط الطغاة دون التطرق إلى لحظة مفصلية في التاريخ، تلك اللحظة التي يفقد فيها الحاكم أو الجماعة وعيهم الكامل بما يدور من حولهم، فيتصرفون بسخرية أو جهل فاضح بينما الواقع ينهار.

وقد عبّر الحديث النبوي الشريف عن هذه الحالة بدقة نادرة، حيث قال ﷺ:

“إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، سلب ذوي العقول عقولهم، حتى إذا نفذ قضاؤه وقدره، ومضى أمره، أعاد إلى ذوي العقول عقولهم، فندموا.”
رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي وأنس بن مالك رضي الله عنهما

هذا الحديث يُسلّط الضوء على تلك اللحظات التي يفقد فيها أصحاب القرار القدرة على التقدير الصحيح، ويتخذون مواقف تُظهرهم بمظهر الساخر أو الغافل، ليتبين لاحقًا – بعد فوات الأوان – أنهم كانوا أدوات في تسريع سقوطهم.

وهذا ما حدث مع بعض الطغاة حين أطلقوا نكاتًا أو عبارات استعلائية في خضم الأزمات، فبدلًا من أن يعزّزوا شرعيتهم، سخر منهم الناس، وخلّدت طرائفهم في ذاكرة الشعوب كأدلة على الغرور والانفصال عن الواقع.

الطرائف بين الذكاء والسطحية

النكتة الذكية تُضحك وتُفكر. أما النكتة “البايخة”، فتكشف ضعف قائلها. وهذا ما حدث مع بعض الزعماء الذين استخفوا بالمواقف الحرجة، فاستخدموا نكاتًا بدت مضحكة في الظاهر، لكنها كانت مهينة لشعوبهم، ودليلًا على انعدام إدراكهم لحجم الكارثة.

النكتة كسلاح ثقافي

ليست النكتة تافهة كما يظن البعض. إنها تعبير ثقافي مركب، وخلاصة لتجربة جماعية. حين تُضحك النكتة الملايين، وتنتشر بين الناس، فإنها تصبح سلاحًا ناعمًا لكنه فعّال.

الشعوب تستخدم النكتة لتقول ما لا تستطيع قوله في العلن. النكتة تُحرّك الوعي، توحد الأصوات، وتختصر الألم في جملة قصيرة، وهذا يجعلها تهديدًا وجوديًا للأنظمة القمعية.


🟢 الخاتمة: رأي شخصي ونصيحة

برأيي، النكتة ليست نكتة حين تُطلق في زمن الظلم، بل هي موقف، وهي سلاح لا يُستهان به. كل جملة ساخرة تُقال من قلب مأساة قد تُوقظ وعيًا، وقد تقود إلى تغيير، حتى ولو بعد حين.

إن دور النكتة في إسقاط الطغاة ليس خيالًا، بل حقيقة تتكرر كلما ضحك الشعب بمرارة، ووجد في الطرفة ما لم يجده في الخطب والبيانات. لذلك، لا تستهينوا بكلمة تُقال على سبيل السخرية، فقد تُغيّر التاريخ.


🟡 الأسئلة الشائعة:

هل فعلاً يمكن أن تُسقط النكتة نظام حكم؟

نعم، في بعض الحالات، تُصبح النكتة رمزًا للرفض الشعبي وتُسهم في زعزعة شرعية الحاكم، خصوصًا إذا كانت ذكية وتنتشر بسرعة.

لماذا تخاف الأنظمة القمعية من النكتة؟

لأن النكتة قادرة على كسر هيبة الحاكم، وكشف عيوبه أمام الناس دون الحاجة إلى صدام مباشر، وهو ما يخشاه الطغاة.

ما الفرق بين نكتة ذكية ونكتة بايخة؟

النكتة الذكية تُضحك وتُفكر وتحمل رسالة، أما النكتة البايخة فتفشل في إحداث الأثر، وتُسقط صاحبها في السخرية منه بدلًا من السخرية معه.

شاركها.

منصة شاملة تقدم محتوى متنوعًا يجمع بين الأخبار الحديثة والمدونات التحليلية، بالإضافة إلى إحصائيات دقيقة، واختبارات تفاعلية، ومقاطع فيديو مبتكرة.

إعلان
Subscribe
Notify of
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
تعليقات داخلية
عرض كل التعليقات
إعلان
wpDiscuz
0
0
حابين نسمع رأيك، اترك تعليقك.x
()
x
Exit mobile version