في خطوة قد تشكّل محطة مفصلية في تاريخ الطاقة التركية، تستعد أنقرة لاقتحام عالم الإنتاج النووي من خلال مشروع أكويو. ليست المسألة مجرد بناء مفاعل أو اثنين، بل هي استراتيجيّة طويلة الأمد لإعادة صياغة خريطة الطاقة في البلاد. هذا التغيير يحمل معه فرصًا هائلة — لكنّه ليس خاليًا من التحديات والشكوك.
في هذا المقال، نرصد كيف تحوّلت الطاقة النووية في تركيا من حلم قديم إلى واقعٍ قريب، ما هي المكاسب المتوقعة، وأين تكمن المخاطر الداخلية والخارجية. كما نُقدّم تحليلاً خاصًا ونظرة مستقبلية، مع تركيز على الأهمية لموقعٍ مثل تركيا، دولة ذات موقع جغرافي جيوسياسي حاسم.
المشروع المركزي — محطة أكويو والطريق إلى “نادي النوويّين”
خلفية المشروع وأهم مراحله
- تم توقيع الاتفاق بين تركيا وروسيا في عام 2010 لإنشاء محطة أكويو النووية بقدرة إجمالية 4.8 غيغاواط (أربعة مفاعلات بقدرة 1,200 ميغاواط لكل منها).
- يُنفّذ المشروع وفق نموذج “البناء-الملكية-التشغيل” (Build-Own-Operate) بحيث تكون الشركة الروسية Rosatom هي المالكة والمشغلة طوال فترة المشروع.
- بدأ البناء الرسمي في العام 2018 بعدما حصلت الشركة على التراخيص اللازمة.
- تم تركيب التوربين الأساسي في الوحدة الأولى في ديسمبر 2024، مما يمهّد لاختبار التشغيل البارد والساخن.
- أول وحدة يُتوقع أن تدخل الشبكة في 2025 (أو تأخيرات محتملة بسبب تأخر قطع غيار من Siemens تُعزى إلى عقوبات دولية على روسيا)
- المشروع يهدف لإدخال الوحدات المتبقية تباعًا حتى عام 2028 ليغطي نحو 10٪ من استهلاك الكهرباء في تركيا.
الأهمية الرمزية والعملية
بإدخال أول وحدة نووية، ستصبح تركيا واحدة من الدول القليلة التي تملك قدرة إنتاج كهرباء نووية لأغراض مدنية. هذا الانتقال لا يُعدّ تطورًا هندسيًا فحسب، بل رسالة استراتيجيّة بجرأة تحوّل في سياسة الطاقة الوطنية.
الفوائد المحتملة والتحوّل في أمن الطاقة
خفض الاعتماد على الواردات وتثبيت التكاليف
- تُقدّر الحكومة أن تشغيل المحطة بالكامل سيقلل فاتورة استيراد الغاز الطبيعي بنحو 1.5 مليار دولار سنويًا.
- مع النمو المتوقع في استهلاك الكهرباء من نحو 347.9 تيراواط-ساعة في 2024 إلى 510.5 تيراواط-ساعة بحلول 2035، فإن قدرة نووية ثابتة تُعدّ قاعدة لتغطية الجزء المتزايد من الطلب.
- المشروع يُساهم في تحسين الميزان التجاري عبر خفض الواردات الطاقوية، وهو أمر حاسم لدولة مثل تركيا تعتمد بدرجة كبيرة على الاستيراد في مجال الطاقة.
تنمية الصناعة المحلية وإنشاء القدرات التقنية
- حتى الآن، حقق المشروع نسبة مكوّن محلي تبلغ حوالي 56٪ مما يُعادل نحو 7.5 مليار دولار من إنفاق المشروع.
- يُتوقع أن يزداد هذا العدد إلى 10 مليارات دولار بحلول 2028، مع التوسع في مكونات التوريد والخدمات الوظيفية المتعلقة بالمحطات الأخرى المخططة.
- أكثر من 350 شركة تركية تشارك في تنفيذ المشروع، ما يساعد على نقل المعرفة وبناء القدرات التكنولوجية في مجالات الهندسة النووية والبنية التحتية.
- توفير فرص عمل مستدامة في التشغيل والصيانة يُقدّر بنحو 4,000 وظيفة.
دور في خفض الانبعاثات الكربونية
- يُتوقع أن تُسهم محطات أكويو في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بما يقارب 18 مليون طن سنويًا عند اكتمال التشغيل الكامل.
- تُعتبر الطاقة النووية خيارًا محوريًا لتحقيق الهدف التركي نحو الحياد الكربوني بحلول 2053.
التوسّع النووي: محطات جديدة وخطط مستقبلية
- تركيا تخطّط للوصول إلى قدرة نووية مركبة تبلغ 7.2 غيغاواط بحلول 2035، ثم التوسع إلى نحو 20 غيغاواط بحلول 2050.
- محطّة سينوب على الساحل الشمالي (البحر الأسود) تم اقتراحها مسبقًا، وكان المشروع مرتبطًا بشراكة يابانية-فرنسية في البداية، لكن الترتيبات قد تتغيّر.
- كما تم تحديد منطقة Thrace (مثل إغنِادة في كيركلاريلي) كموقع محتمل لمحطة نووية ثالثة.
- أنقرة تفتح باب المفاوضات مع دول وشركات مثل كوريا الجنوبية، الولايات المتحدة، الصين حول مشاريع نووية جديدة ونماذج شراكة مغايرة لتقليل الاعتماد على جهة واحدة.
التحديات والقيود: بين الطموح والمخاطر
الاعتماد التقني والسياسي
أحد أبرز الانتقادات هو أن نموذج BOO مع روساتوم يجعل تركيا تعتمد على روسيا في الوقود، التشغيل، والصيانة. هذا قد يولّد تبعية جديدة بدلاً من الاستقلال التام.
كما أن تأخير توريد مكوّنات من Siemens بسبب عقوبات غربية يُمثّل مثالًا حيًا على أوجه الخطر في الاعتماد على سلاسل دولية قابلة للتغيّر.
الكلفة الاستثمارية والمالية
المشروع الأصلي قدّر بـ 20 مليار دولار، لكن تكلفة التنفيذ والتأخيرات قد رفعت هذا الرقم.
إدارة تكلفة التشغيل والصيانة، والتزامات الوقود، وكذلك ضمان الفائدة الاقتصادية للمواطنين ستكون مهمة معقّدة.
القلق البيئي والأمني
التأثيرات المحتملة على البيئة البحرية (مياه التبريد، درجات الحرارة، التسرّب المحتمل) تستلزم رقابة صارمة وشفافية في المراقبة البيئية.
من جهة أمنية، تمّ في 2024 ضبط شخص يُشتبه بأنه متطرّف يعمل في المشروع بهوية مزوّرة، ما يسلّط الضوء على التحديات الأمنية في مشاريع بهذا الحجم والحساسية.
القبول الاجتماعي والثقة
المجتمعات المحلية قد تُبدِي مقاومة خشية من المخاطر النووية أو التأثير على الزراعة وصيد الأسماك. بناء الثقة بات ضروريًا.
كما أن الشفافية في التعاقدات والتنسيق مع الجهات الرقابية تُعدّ عناصر حاسمة لضمان شرعية المشروع أمام الرأي العام.
بين الفرصة والحذر
مشروع أكويو هو تجربة استراتيجية تُعكس مدى جدية تركيا في تغيير قاعدة الطاقة الوطنية. لكن النجاح الحقيقي لا يُقاس فقط بإضاءة الإنارة، بل بمدى تمكّن تركيا من استيعاب التقنيات النووية داخليًّا، تقليص الاعتماد على شركاء أقوياء خارجيين، وتنمية قاعدة صناعية متقدمة تستطيع إسناد المشاريع المقبلة.
إذا فشلت أنقرة في تأمين قدر من الاستقلالية في الوقود والصيانة والتشغيل، فقد ينقلب المشروع إلى عبء سياسي واقتصادي. لذا، من المهم أن ترافق المشاريع النووية استثمارات مكثفة في البحث والتطوير، التعليم النووي، تصنيع مكوّنات محلية، والتعاون الدولي ذكي التوزيع.
بالإضافة إلى ذلك، دمج الطاقة النووية مع الطاقات المتجددة (الرياح، الشمس، الهيدروجين الأخضر) سيكون مفتاحًا لبناء مزيج طاقي متنوع يضمن المرونة والأمان. أي تثبيت في سياسة الطاقة يُجبِر على التفكير في اختلاف الطلب والمخاطر العالمية.
ماذا ينتظر تركيا؟
- تشغيل أول وحدة ونقطة الانطلاق
إذا دخلت الوحدة الأولى حيّز التشغيل في 2025 كما هو مخطط، فإن هذا سيُعدّ الشرارة التي تحوّل تركيا رسميًا إلى دولة منتجة للطاقة النووية. - إدخال الوحدات المتبقية وتوسع إضافي
الوصول إلى الأربعة وحدات في الفترة حتى 2028، ثم الانطلاق في مشاريع سينوب وThrace سيؤسس قاعدة نووية حقيقية بحلول منتصف القرن. - دخول تركيا في شراكات متعددة وتقليل التبعية
من المتوقع أن تزايد أنقرة التنويع في الشركاء: مفاوضات مع الولايات المتحدة حول مفاعلات كبيرة وصغيرة (SMRs)، ومع الصين وكوريا الجنوبية لمشروعات جديدة. - تحول الصناعات المحلية وتصدير التكنولوجيا؟
إذا نجحت في بناء القدرة الصناعية المحلية، قد تتطوّر شركات تركية إلى التصدير في مجال المكوّنات النووية. هذا سيكون تحولًا نوعيًا في مكانة تركيا في قطاع التكنولوجيا المتقدمة. - تأثير على موقف تركيا في الشرق الأوسط وأوروبا
امتلاك قدرة نووية يعطي أنقرة وزنًا إضافيًا في الملفّات الأمنية، التنافس الإقليمي في الطاقة، والمفاوضات الدولية. قد يصبح لها دور أكبر كمصدر كهرباء أو شريك طاقي للبلدان المجاورة.
المصدر:
مواقع منظمات الطاقة النووية، تقارير اقتصادية، ووسائل إعلام موثوقة (World Nuclear Association، Reuters)، ومواقع الأخبار التركية، بالإضافة إلى دراسات محلية حول الخطط النووية التركية.



