إعلان

في أعماق الكون السحيق، حيث تنهار النجوم العملاقة وتلتهم الثقوب السوداء كل ما حولها، تحدث أضخم الانفجارات الكونية وأكثرها عنفًا على الإطلاق. تُعرف هذه الظواهر باسم “انفجارات أشعة غاما” (Gamma-Ray Bursts)، وهي ومضات من الطاقة تفوق ما تنتجه شمسنا طوال فترة حياتها المقدرة بـ 10 مليارات عام، لكنها تُطلق في غضون ثوانٍ معدودة فقط. لعقود، كان الإجماع العلمي قاطعًا: هذه الأحداث هي صرخة موت لمرة واحدة؛ فالحدث الذي يسببها مُدمر تمامًا ولا يمكن أن يتكرر. لكن، يبدو أن الكون قرر كسر هذه القاعدة.

ما هي انفجارات أشعة غاما بالضبط؟

لنتخيل الأمر ببساطة، إذا كانت الشمس بحجم حبة رمل، فإن مجرة درب التبانة ستكون بحجم قارة أمريكا الشمالية. والآن، تخيل انفجارًا يحدث في مجرة بعيدة جدًا لدرجة أن ضوءه استغرق مليارات السنين ليصل إلينا، ورغم هذه المسافة الشاسعة، يسطع هذا الانفجار في سمائنا لفترة وجيزة ليكون ألمع من كل النجوم مجتمعة. هذه هي قوة انفجارات أشعة غاما.

تنشأ هذه الظواهر بشكل أساسي من سيناريوهين كارثيين:

  1. المستعر الأعظم الفائق (Hypernova): انهيار نجم يفوق حجم الشمس بـ 30 إلى 40 مرة على الأقل، حيث ينضغط قلبه مكونًا ثقبًا أسود، بينما تُقذف طبقاته الخارجية في الفضاء على شكل نفاثات ضيقة من الطاقة.
  2. اندماج النجوم النيوترونية: دوران نجمين نيوترونيين (بقايا كثيفة جدًا لنجوم ميتة) حول بعضهما البعض حتى يندمجا في النهاية، مُطلقين كمية هائلة من الطاقة في انفجار قصير وعنيف.

في كلتا الحالتين، الحدث نهائي. النجم يموت، أو يندمج. لذلك، كان تكرار الانفجار من نفس المصدر أمرًا خارج نطاق النظريات المقبولة تمامًا.

الحدث الذي حير العالم: إشارة من المستحيل

في يوليو الماضي، التقط تلسكوب فيرمي الفضائي التابع لناسا شيئًا غريبًا: ثلاث ومضات من أشعة غاما قادمة من نفس البقعة في السماء في غضون ساعات قليلة. سرعان ما انضمت مراصد أخرى حول العالم، من مسبار أينشتاين الصيني-الأوروبي إلى التلسكوب العملاق (VLT) في تشيلي، لتؤكد أن هذا المصدر كان نشطًا بشكل متقطع لمدة يوم كامل تقريبًا.

إعلان

هذه الملاحظة حطمت كل التوقعات. لم تكن الإشارة مجرد ومضة عابرة، بل سلسلة من الانفجارات الكونية التي استمرت “100 إلى 1000 مرة” أطول من المعتاد. أكد تلسكوب هابل الفضائي لاحقًا أن مصدر هذه الإشارات يقع في مجرة بعيدة، على بعد مليارات السنين الضوئية، مما يعني أن طاقة كل انفجار كانت هائلة بشكل لا يمكن تصوره.

ردود الفعل الأولية في المجتمع العلمي تراوحت بين الصدمة والتشكيك. قال الدكتور أنتونيو مارتن-كاريلو، أحد المشاركين في الدراسة، إن “هذه الإشارة مختلفة عن أي شيء رُصد خلال الخمسين عامًا الماضية.”

تحليل خاص: ما الذي يمكن أن يسبب هذا التكرار؟

بما أن النظريات الحالية لا تفسر هذه الظاهرة، يضطر العلماء الآن إلى التفكير خارج الصندوق. لم يعد الأمر يتعلق بانهيار نجم واحد، بل بآلية قادرة على إعادة شحن نفسها وإطلاق هذه الطاقة مرارًا وتكرارًا. هنا تبرز بعض الفرضيات الجديدة، المدعومة بالبيانات الأولية:

  • نجم مغناطيسي (Magnetar) خارق: النجوم المغناطيسية هي نجوم نيوترونية ذات مجالات مغناطيسية قوية بشكل جنوني. ربما يكون ما تم رصده هو “زلزال نجمي” عملاق على سطح أحد هذه النجوم، وهو حدث يمكن أن يولد ومضات طاقة هائلة بشكل متكرر. ومع ذلك، فإن طاقة الانفجارات المرصودة تفوق ما يُعتقد أن النجوم المغناطيسية قادرة عليه.
  • رقصة الموت مع ثقب أسود: قد يكون السيناريو الآخر هو وجود نجم في مدار قريب جدًا من ثقب أسود فائق الكتلة. في كل مرة يقترب فيها النجم من الثقب الأسود، يتمزق جزء من غلافه الخارجي بفعل الجاذبية الهائلة، وتتسارع هذه المادة وتطلق دفعة من أشعة غاما قبل أن يبتلعها الثقب الأسود. هذا النموذج يفسر التكرار، ولكنه يتطلب ظروفًا مدارية نادرة جدًا.
  • فئة جديدة تمامًا من الظواهر الكونية: الاحتمال الأكثر إثارة هو أننا نشهد شيئًا جديدًا كليًا، ربما آلية فيزيائية لم نتوقعها من قبل. هذا الاكتشاف قد يفتح بابًا لفهم أعمق لدورة حياة النجوم أو سلوك المادة في ظل الظروف المتطرفة.

نظرة مستقبلية: ما الذي يخبئه لنا هذا اللغز؟

هذا الاكتشاف ليس مجرد فضول فلكي، بل هو تحدٍ مباشر لفهمنا الأساسي للفيزياء الفلكية عالية الطاقة. إنه يمثل بداية حقبة جديدة من الرصد، حيث سيتم تكريس جهود المراصد المستقبلية، مثل تلسكوب جيمس ويب الفضائي والمراصد الأرضية القادمة، للبحث عن المزيد من هذه المصادر المتكررة.

للقارئ، هذا يذكرنا بأن الكون لا يزال مكانًا مليئًا بالأسرار. كلما اعتقدنا أننا وضعنا القواعد، أظهر لنا استثناءً يغير كل شيء. هذه انفجارات أشعة غاما المتكررة هي دليل على أن هناك عمليات كونية جبّارة لا زلنا نجهلها تمامًا، وأن الاكتشافات الأعظم قد تكون قاب قوسين أو أدنى.

المصدر:

دراسة منشورة في مجلة “The Astrophysical Journal Letters” وملاحظات المرصد الأوروبي الجنوبي (ESO).

شاركها.

منصة شاملة تقدم محتوى متنوعًا يجمع بين الأخبار الحديثة والمدونات التحليلية، بالإضافة إلى إحصائيات دقيقة، واختبارات تفاعلية، ومقاطع فيديو مبتكرة.

إعلان
Subscribe
Notify of
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
تعليقات داخلية
عرض كل التعليقات
إعلان
wpDiscuz
0
0
حابين نسمع رأيك، اترك تعليقك.x
()
x
Exit mobile version