في كل ثانية، تخترق أجسادنا مليارات المليارات من جسيمات شبحية غير مرئية، قادمة من الشمس ومن أعماق الفضاء ومن بقايا الانفجار العظيم نفسه. هذه الجسيمات، المعروفة باسم النيوترينوات، بالكاد تتفاعل مع أي شيء، وتمر عبر الكوكب بأكمله وكأنه غير موجود. لكن في هذه المراوغة يكمن سر فهم أعمق ألغاز وجودنا. لهذا السبب بالذات، في قلب جبل جنوب الصين، بنى العلماء مصيدة كونية هائلة بتكلفة 300 مليون دولار، في محاولة للإمساك بظلال هذه الأشباح.
رحلة إلى مرصد جيانغمن: العين الصينية التي ترصد أصداء الانفجار العظيم
تخيل أنك تهبط 700 متر تحت سطح الأرض، في كهف ضخم نحته الإنسان بعناية فائقة. هناك، بعيدًا عن ضجيج الأشعة الكونية التي تقصف سطح كوكبنا باستمرار، يقع مرصد جيانغمن تحت الأرض للنيوترينوات (JUNO). هذا ليس مجرد مختبر، بل هو أشبه بعين عملاقة تحدق في الكون، في انتظار ومضة ضوء خافتة قد تغير فهمنا لكل شيء.
قلب المرصد النابض هو فقاعة أكريليك عملاقة تزن 600 طن، وهي الأكبر من نوعها في العالم، تسبح في خزان هائل مملوء بـ 20 ألف طن من سائل خاص يسمى “السائل الومّاض”. هذه الفقاعة ليست فارغة، بل هي محاطة بشبكة مذهلة تضم أكثر من 45,000 مستشعر ضوئي فائق الحساسية. كل هذا الهيكل مغمور في بركة أسطوانية تحتوي على 35 ألف طن من المياه النقية، تعمل كدرع إضافي للحماية.
ولكن كيف تعمل هذه المصيدة المعقدة؟ تأتي النيوترينوات المستخدمة في التجربة من محطتي طاقة نووية قريبتين. عندما يمر أحد هذه “الجسيمات الشبحية” النادرة جدًا عبر السائل الومّاض ويصطدم بأحد البروتونات، فإنه يُحدث ومضة ضوئية باهتة جدًا. في تلك اللحظة، تعمل آلاف المستشعرات كبكسلات في كاميرا كونية، وتلتقط هذا الوميض الخافت وتسجل بياناته بدقة. إنه عمل يتطلب صبرًا فائقًا، حيث يتوقع العلماء تسجيل حوالي 50 ومضة فقط في اليوم.
لماذا كل هذا العناء؟ الألغاز الكبرى التي قد تحلها النيوترينوات
قد يبدو بناء مثل هذا الصرح الضخم لمجرد رصد ومضات خافتة أمرًا مبالغًا فيه، لكن الإجابات التي قد يقدمها مرصد جيانغمن تمس جوهر وجودنا:
- سر المادة المفقودة: ينص النموذج القياسي للفيزياء على أن الانفجار العظيم كان يجب أن ينتج كميات متساوية من المادة والمادة المضادة. كان من المفترض أن تفني كل منهما الأخرى، ولا يتبقى شيء سوى الطاقة. حقيقة وجودنا ووجود المجرات والنجوم تعني أن شيئًا ما رجّح كفة المادة. يعتقد الكثير من العلماء أن النيوترينوات قد لعبت دورًا في هذا اللغز، ودراستها قد تفسر لماذا نحن هنا.
- ترتيب كتلة النيوترينو: نحن نعلم أن للنيوترينوات كتلة، لكننا لا نعرف أي نوع منها هو الأثقل وأيها الأخف. تحديد هذا الترتيب (المعروف باسم “التسلسل الهرمي للكتلة”) هو أحد الأهداف الرئيسية لمرصد جيانغمن، وسيكون إنجازًا ثوريًا في فيزياء الجسيمات.
- فهم المادة المظلمة: تشكل المادة المظلمة حوالي 27% من الكون، لكننا لا نعرف ما هي. من خلال دراسة خصائص النيوترينوات بدقة غير مسبوقة، قد يجد العلماء أدلة جديدة ترشدهم إلى طبيعة هذه المادة الغامضة التي تبقي المجرات متماسكة.
سباق علمي نحو فجر الكون
إن بناء مرصد جيانغمن ليس مجرد مشروع علمي، بل هو إعلان واضح عن طموح الصين للتحول من قوة اقتصادية إلى رائدة عالمية في العلوم الأساسية. فهذا الاستثمار الهائل يضعها في قلب سباق علمي عالمي محتدم بجانب مشاريع عملاقة أخرى مثل هايبر-كاميوكاندي في اليابان (يبدأ العمل في 2027) وتجربة النيوترينو العميقة تحت الأرض (DUNE) في الولايات المتحدة (يبدأ في 2031).
ماذا يُتوقع؟ سيبدأ الآن سباق ماراثوني لجمع البيانات. يتوقع فريق مرصد جيانغمن أنهم بحاجة إلى ست سنوات على الأقل لتسجيل حوالي 100 ألف ومضة للحصول على نتائج موثوقة إحصائيًا.
التأثير على الصين: إذا نجحت التجربة في تحقيق أهدافها، فلن تمنح الصين جائزة نوبل فحسب، بل ستعزز مكانتها كمركز عالمي لجذب أفضل العقول في الفيزياء. كما أن التقنيات المطورة للمرصد، مثل المستشعرات الضوئية وأنظمة معالجة البيانات الضخمة، يمكن أن تجد تطبيقات في مجالات أخرى مثل الطب والصناعة. إنها مغامرة جريئة، كما وصفتها كيت شولبرغ، أستاذة الفيزياء بجامعة ديوك، ولكنها مغامرة قد تكشف لنا أخيرًا عن قصة أصل الكون.
المصدر:
مشروع JUNO (Jiangmen Underground Neutrino Observatory).
قسم الأسئلة الشائعة
1. ما هو مرصد جيانغمن تحت الأرض للنيوترينوات (JUNO)؟
هو مختبر فيزياء ضخم يقع على عمق 700 متر تحت جبل في الصين. مصمم خصيصًا لرصد جسيمات النيوترينو “الشبحية” باستخدام كاشف كروي عملاق مملوء بسائل ومّاض.
2. لماذا تم بناء المرصد في أعماق الأرض؟
لحمايته من الأشعة الكونية والإشعاعات الأخرى القادمة من الفضاء، والتي يمكن أن تتداخل مع القياسات الدقيقة وتسبب إشارات خاطئة، مما يسمح برصد ومضات النيوترينو الخافتة بوضوح.
3. ما الذي يأمل العلماء في اكتشافه من خلال هذه التجربة؟
يهدف العلماء إلى حل ألغاز أساسية في الفيزياء، مثل تحديد ترتيب كتلة النيوترينوات، وفهم سبب هيمنة المادة على المادة المضادة في الكون، وربما الحصول على أدلة حول طبيعة المادة المظلمة.