إعلان

لطالما ارتبطت الزلازل في أذهاننا بالدمار والفوضى، فهي قوة طبيعية هائلة تعيد تشكيل السطح وتهدد الحياة. لكن ماذا لو كانت هذه الهزات العنيفة، في الأعماق السحيقة، هي نفسها الشرارة التي توقد نار الحياة؟ في اكتشاف مذهل يعيد كتابة فصول علم الأحياء والجيولوجيا، كشف فريق من العلماء الصينيين والكنديين عن وجود محرك طاقة غير متوقع يدعم وجود حياة في باطن الأرض، وهذا المحرك هو النشاط الزلزالي نفسه.


بطارية طبيعية في قلب الكوكب

بعيدًا عن ضوء الشمس، وفي بيئة كان يُعتقد أنها معقمة تمامًا، تزدهر مملكة خفية من الكائنات الحية الدقيقة. السؤال الذي حير العلماء طويلاً هو: من أين تحصل هذه الكائنات على طاقتها؟ تقدم الدراسة التي قادها تشو جيانشي وهي هونغ بينغ إجابة ثورية: طحن الصخور.

عندما تتحرك الصفائح التكتونية وتتكسر الصخور أثناء الزلزال، فإنها لا تطلق طاقة ميكانيكية فحسب. وجد الباحثون أن هذه العملية تعمل كبطارية كيميائية عملاقة.

  1. تكسير الصخور: يؤدي تكسر وطحن معادن السيليكات (مثل الكوارتز) تحت ضغط هائل إلى تعريض أسطح جديدة شديدة التفاعل للماء المحبوس في الشقوق.
  2. توليد الوقود: هذا التفاعل يكسر جزيئات الماء (H₂O) نفسها، مما ينتج غاز الهيدروجين (H₂) وجزيئات أكسجين تفاعلية مثل بيروكسيد الهيدروجين (H₂O₂).
  3. إنتاج الطاقة: يشكل الهيدروجين وبيروكسيد الهيدروجين معًا زوجًا كيميائيًا مثالياً (يُعرف علميًا باسم “ثنائي أكسدة-اختزال”). هذا الزوج يحفز تدفق الإلكترونات، مما يولد جهدًا كهربائيًا يصل إلى 0.82 فولت. هذه الطاقة ليست ضئيلة على الإطلاق. بل هي كافية تمامًا لتشغيل العمليات الأيضية الأساسية لمعظم الميكروبات.

ببساطة، كل هزة أرضية هي بمثابة عملية شحن لهذه البطارية الجوفية، مما يوفر تدفقًا مستمرًا من الطاقة الكيميائية التي تدعم وجود حياة في باطن الأرض.


وجهة نظر جديدة لأصل الحياة نفسها

هذا الاكتشاف لا يقتصر على فهمنا للحياة الحالية، بل يقدم فرضية جديدة ومقنعة حول “أصل الحياة”. لعقود، سادت نظرية “البركة الدافئة الصغيرة” لتشارلز داروين، والتي تفترض أن الحياة بدأت في مياه سطحية غنية بالمواد الكيميائية وتحت أشعة الشمس.

إعلان

ولكن، السطح كوكب غير مستقر، ومعرض باستمرار لقصف النيازك والأشعة فوق البنفسجية القاتلة. على النقيض، يوفر باطن الأرض ملاذًا آمنًا ومستقرًا. هذه الدراسة تشير إلى أن المكونات الأساسية للحياة — الماء، والطاقة الكيميائية، والمعادن — لم تكن متوفرة فقط في الأعماق، بل كانت تتجدد باستمرار بفضل النشاط الجيولوجي.

ربما لم تكن الحياة بحاجة إلى “حظ” الظروف المثالية على السطح، بل نشأت كنتيجة حتمية لفيزياء وكيمياء كوكبنا النشط جيولوجيًا. قد تكون قصة أصلنا ليست قصة شمس وسماء، بل قصة صخور وظلام وطاقة متولدة من باطن الأرض. هذا الاكتشاف يجعل فرضية نشوء حياة في باطن الأرض أولاً أمراً معقولاً للغاية. والعلم عند الله.


من الأرض إلى المريخ وما بعده: البحث عن حياة خارج كوكبنا

لعل الجانب الأكثر إثارة في هذا البحث هو آثاره على علم الأحياء الفلكي. إذا كان النشاط الزلزالي يمكن أن يخلق بيئات صالحة للحياة على الأرض، فمن الممكن أن يفعل الشيء نفسه في أماكن أخرى.

  • كوكب المريخ: لم يعد المريخ كوكبًا “ميتًا” جيولوجيًا كما كنا نعتقد. فقد رصدت مركبة الهبوط “إنسايت” (InSight) التابعة لناسا “هزات مريخية” (Marsquakes)، مما يؤكد وجود نشاط تكتوني. هذا يعني أن الآلية نفسها لتوليد الطاقة الكيميائية قد تكون نشطة تحت سطح المريخ اليوم. مما يفتح مناطق جديدة تمامًا للبحث عن أدلة على وجود حياة في باطن الأرض المريخية.
  • أقمار الكواكب الغازية: أقمار مثل “إنسيلادوس” (قمر زحل) و”أوروبا” (قمر المشتري) تظهر أدلة قوية على وجود محيطات سائلة تحت قشورها الجليدية. تتعرض هذه الأقمار لقوى مد وجزر هائلة من كواكبها الأم، مما يسبب احتكاكًا وتكسرًا في نواتها الصخرية. هذه العملية يمكن أن تولد الهيدروجين بنفس الطريقة، مما يوفر وقودًا كيميائيًا لأي حياة محتملة في تلك المحيطات المظلمة.

هذا الاكتشاف يعطي العلماء الآن “بصمة كيميائية” للبحث عنها: تقلبات في نسب الحديد المؤكسد، أو وجود جيوب من الهيدروجين والأكسجين في مناطق الصدوع على المريخ، قد تكون دليلاً غير مباشر على وجود أنظمة بيئية نشطة.

تفاعل المجتمع العلمي والجمهور

أثار هذا الخبر موجة من الحماس في الأوساط العلمية وعلى منصات التواصل الاجتماعي. علق الدكتور روبرت هازن، عالم المعادن البارز، في سياق مشابه قائلًا: “إن الغلاف الحيوي العميق يمثل أحد آخر الحدود العظيمة غير المكتشفة على كوكبنا”. هذه الدراسة الجديدة تمنحنا المفتاح لعبور تلك الحدود.

على الإنترنت، تراوحت ردود الفعل بين الدهشة والمقارنات الطريفة مع رواية جول فيرن “رحلة إلى مركز الأرض”. كتب أحد المستخدمين على تويتر: “إذًا، في كل مرة يحدث زلزال، هناك حفلة ميكروبية في الأسفل!”. بينما رأى آخرون في الأمر تأكيدًا على أن الحياة أكثر مرونة وعنادًا مما نتخيل، وقادرة على الازدهار في أكثر البيئات قسوة.

في النهاية، هذا الاكتشاف يذكرنا بأن الأرض ليست مجرد صخرة صامتة نعيش على سطحها، بل هي نظام ديناميكي حي. حيث يمكن لأكثر القوى تدميرًا أن تكون هي نفسها مصدرًا خفيًا للحياة.


أسئلة شائعة حول الحياة في باطن الأرض:

1. كيف يمكن للزلازل أن تخلق حياة؟

الزلازل لا “تخلق” الحياة مباشرة، بل توفر الطاقة اللازمة لدعمها. عملية تكسير وطحن الصخور أثناء الهزات الأرضية تولد طاقة كيميائية (على شكل هيدروجين وبيروكسيد الهيدروجين) تستخدمها الميكروبات في الأعماق للبقاء على قيد الحياة، في غياب ضوء الشمس.

2. ما هو حجم هذه الحياة المكتشفة في باطن الأرض؟

تشير التقديرات إلى أن الغلاف الحيوي العميق يؤوي ما يصل إلى 95% من بدائيات النوى (البكتيريا والعتائق) على الكوكب، ويشكل حوالي خُمس إجمالي الكتلة الحيوية للأرض، مما يجعله نظامًا بيئيًا هائلاً.

3. هل يمكن أن تكون هذه الآلية موجودة على كواكب أخرى؟

نعم، هذا هو أحد أهم استنتاجات الدراسة. أي كوكب أو قمر له نشاط تكتوني أو زلزالي (مثل المريخ) أو قوى مد وجزر قوية (مثل قمر إنسيلادوس) يمكن أن يحتوي على هذه الآلية لتوليد الطاقة، مما يزيد من احتمالية وجود حياة تحت سطحه.

4. ما أهمية هذا الاكتشاف لأصل الحياة؟

يقدم الاكتشاف بديلاً لنظريات أصل الحياة على السطح. فهو يشير إلى أن الأعماق السحيقة وفرت بيئة محمية ومستقرة وغنية بالطاقة، مما يجعلها مرشحًا قويًا لتكون المهد الذي بدأت فيه الحياة الأولى على الأرض.

 


المصدر:

الدراسة المنشورة في مجلة “Science Advances” من قبل باحثين من معهد قوانغتشو للكيمياء الجيولوجية (GIG) وجامعة ألبرتا.

شاركها.

منصة شاملة تقدم محتوى متنوعًا يجمع بين الأخبار الحديثة والمدونات التحليلية، بالإضافة إلى إحصائيات دقيقة، واختبارات تفاعلية، ومقاطع فيديو مبتكرة.

إعلان
Subscribe
Notify of
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
تعليقات داخلية
عرض كل التعليقات
إعلان
wpDiscuz
0
0
حابين نسمع رأيك، اترك تعليقك.x
()
x
Exit mobile version