من الاستضعاف إلى التمكين
بعد أن مهدت بيعتا العقبة الطريق في سلسلتنا السابقة، تأتي الهجرة النبوية لتكون الحدث الفاصل الذي نقل الدعوة الإسلامية من مرحلة الصبر والاستضعاف في مكة، إلى مرحلة التمكين وبناء الدولة في المدينة.
في هذا الجزء، نتتبع خطوات تأسيس هذا المجتمع الجديد؛ من بناء المسجد كقلبٍ نابضٍ للأمة، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، إلى وثيقة المدينة التي أرست قواعد المواطنة والتعايش، مرورًا بالتحديات الكبرى والغزوات الفاصلة التي ثبتت أركان الدولة الوليدة.
الفصل الأول: الرحلة التي غيرت مجرى التاريخ: تفاصيل الهجرة النبوية
1.1. الإذن بالرحيل ومؤامرة قريش
بعد أن بايع الأنصار رسول الله ﷺ في بيعة العقبة الثانية على النصرة والحماية، اشتد أذى قريش على المسلمين في مكة، فأذن النبي ﷺ لأصحابه بالهجرة إلى يثرب، قائلاً: “إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها”. فبدأ الصحابة يتسللون أفرادًا وجماعات، تاركين وراءهم ديارهم وأموالهم فرارًا بدينهم. كان أول من هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد، ثم تتابع المهاجرون، وكانت هجرتهم غالبًا في الخفاء لتجنب بطش قريش.
إلا أن هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت استثناءً فريدًا؛ إذ هاجر علانية متحديًا قريشًا في عقر دارها. فقد تقلد سيفه وطاف بالكعبة، ثم أتى المشركين وقال: “شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه وييتم ولده وترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي”. فلم يجرؤ أحد على اتباعه، ومضى في طريقه إلى يثرب، مما بث الرهبة في قلوب المشركين ورفع من معنويات المسلمين.
عندما رأت قريش أن أصحاب النبي ﷺ قد بدأوا يجدون ملاذًا آمنًا في يثرب، وأن الإسلام ينتشر فيها بقوة، أدركت خطورة الموقف. فاجتمع كبراؤها في دار الندوة لتدبير مؤامرة تقضي على الدعوة في مهدها. وبعد تداول الآراء بين الحبس والنفي، استقر رأيهم على اقتراح أبي جهل، وهو أن يأخذوا من كل قبيلة شابًا قويًا، ثم يضربوا النبي ﷺ ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، وتعجز بنو هاشم عن المطالبة بثأره من كل تلك القبائل مجتمعة.
في تلك الليلة العصيبة، نزل جبريل عليه السلام على النبي ﷺ وأخبره بمؤامرة قريش، وأمره ألا يبيت في فراشه. عندئذ، كلف النبي ﷺ ابن عمه الشاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمبيت في فراشه، لتمويه المشركين الذين كانوا يتربصون بالبيت. لم تكن هذه المهمة مجرد خداع تكتيكي، بل كانت تضحية بطولية من علي الذي عرض نفسه لخطر الموت المحقق فداءً لرسول الله. بالإضافة إلى ذلك، أمره النبي ﷺ أن يبقى في مكة بعده ليرد الأمانات التي كانت عند النبي ﷺ إلى أصحابها من أهل مكة، وهذا دليل ساطع على أمانته ﷺ التي شهد بها أعداؤه أنفسهم، فلم تمنعه العداوة والمطاردة من أداء الحقوق لأهلها. وفي جوف الليل، خرج النبي ﷺ من بيته، واخترق صفوف المشركين المتحلقين حول الدار، وهم لا يرونه، وهو يحثو على رؤوسهم التراب تاليًا قول الله تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 9].
1.2. في كنف العناية الإلهية: غار ثور
لم تكن رحلة الهجرة مجرد رد فعل عفوي، بل كانت عملية محكمة التخطيط، جمعت بين الأخذ بالأسباب البشرية المتاحة والتوكل المطلق على العناية الإلهية. فور خروجه من بيته، توجه النبي ﷺ إلى دار صاحبه ورفيق دربه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي كان قد أعد راحلتين استعدادًا لهذه اللحظة المنتظرة. تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أنها لم ترَ أحدًا يبكي من شدة الفرح قبل أن رأت أباها يبكي حين قال له النبي ﷺ: “الصحبة يا أبا بكر”.
ومن هنا بدأت الخطة الدقيقة تتكشف:
- التمويه الاستراتيجي: بدلًا من سلوك الطريق الشمالي المعتاد والمتوقع نحو يثرب، انطلق النبي ﷺ وصاحبه جنوبًا نحو جبل ثور، وهو اتجاه معاكس تمامًا، بهدف تضليل المطاردين وإرباكهم.
- المأوى المؤقت: اختبآ في غار ثور، وهو كهف صغير وعر في قمة الجبل، ومكثا فيه ثلاث ليالٍ حتى تهدأ حركة البحث والمطاردة.
- شبكة الدعم اللوجستي: تم تفعيل شبكة دعم محكمة وموثوقة، كان أبطالها من آل أبي بكر:
- عبد الله بن أبي بكر: كان شابًا ذكيًا، يمضي نهاره في مكة يتسمع أخبار قريش وخططهم، ثم يأتي إلى الغار ليلًا ليزودهما بآخر المستجدات.
- أسماء بنت أبي بكر: كانت تأتيهما بالطعام والشراب سرًا، وقد شقت نطاقها نصفين لتربط به الزاد، فلقبت بـ “ذات النطاقين”.
- عامر بن فهيرة: مولى أبي بكر، كان يرعى غنمه نهارًا، ثم يريحها عند الغار ليلًا ليشربا من لبنها، والأهم من ذلك أنه كان يسير بغنمه على آثار أقدام عبد الله وأسماء ليخفيها عن أعين القصاصين.
وصلت مطاردة قريش إلى ذروتها عندما تتبع القصاصون الأثر حتى وصلوا إلى فم الغار. في تلك اللحظة الحرجة التي حبست فيها الأنفاس، قال أبو بكر رضي الله عنه خائفًا على رسول الله: “يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه”. فأجابه النبي ﷺ إجابة الواثق بربه، التي تمثل قمة اليقين والسكينة: “يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا”. وقد خلّد القرآن الكريم هذا المشهد الإيماني الفريد في قوله تعالى:
﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ [التوبة: 40].
1.3. على طريق المدينة: معالم ومواقف
بعد أن هدأت حركة البحث، خرج النبي ﷺ وصاحبه من الغار في ليلة الاثنين الأول من ربيع الأول، ليبدآ المرحلة الثانية من رحلتهما، مستعينين بدليل خبير بالطرق الصحراوية غير المطروقة.
- الدليل الخبير: كان دليلهما هو عبد الله بن أريقط، رجل من بني الديل، وكان خبيرًا ماهرًا بمسالك الصحراء، وعلى الرغم من أنه لم يكن مسلمًا آنذاك، إلا أن النبي ﷺ وأبا بكر وثقا في خبرته وأمانته. وفي هذا درس بليغ في جواز الاستعانة بأهل الكفاءة والخبرة من غير المسلمين ما داموا موضع ثقة لتحقيق أهداف مشروعة.
- مطاردة سراقة بن مالك: رصدت قريش جائزة كبيرة لمن يأتي بالنبي ﷺ وصاحبه. طمع في هذه الجائزة سراقة بن مالك، فامتطى جواده وتتبع آثارهما حتى كاد أن يلحق بهما. وكلما اقترب، ساخت قوائم فرسه في الرمال. تكرر الأمر ثلاث مرات، فأدرك سراقة أن الرجلين محفوظان بقوة إلهية. عندها طلب الأمان من النبي ﷺ، ووعده بأن يخفي خبرهما عمن وراءه من المطاردين. وفي هذا الموقف، ومع أنه ﷺ كان مطاردًا، بشّر سراقة بسواري كسرى، ملك الفرس. كانت هذه نبوءة عجيبة في وقت الشدة، تدل على يقين مطلق بنصر الله ومستقبل الدعوة، وقد تحققت هذه النبوءة بعد سنوات في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- خيمة أم معبد: في طريقهما، مر الركب المبارك بخيمة أم معبد الخزاعية، وهي امرأة كريمة كانت تجلس بفناء خيمتها تطعم وتسقي عابري السبيل. سألاها عن طعام أو لبن، فاعتذرت لعدم وجود شيء لديها سوى شاة هزيلة أجهدها الضعف عن اللحاق بالقطيع. استأذنها النبي ﷺ ليحلبها، فمسح بيده المباركة على ضرعها ودعا الله، فدرّت لبنًا وفيرًا، فشربوا جميعًا حتى ارتووا. وعندما عاد زوجها ورأى اللبن، تعجب وأدرك أن ضيفًا مباركًا قد حلّ بهم. وقد وصفت أم معبد النبي ﷺ لزوجها وصفًا بليغًا ودقيقًا يُعد من أروع ما رُوي في شمائله الشريفة.
جدول زمني مقارن لرحلة الهجرة
تتفق المصادر التاريخية على الخطوط العريضة لرحلة الهجرة، مع وجود اختلافات طفيفة في تحديد بعض الأيام، ويمكن تلخيص التسلسل الزمني المقارن للأحداث الرئيسية كما يلي :
التاريخ (حسب سيرة ابن هشام) | التاريخ (حسب ابن سعد البغدادي) | التاريخ الميلادي التقريبي | الحدث الرئيسي |
ليلة الجمعة 27 صفر 1 هـ | ليلة الجمعة 27 صفر 1 هـ | 12-13 سبتمبر 622م | الخروج من مكة والمبيت في غار ثور لثلاث ليالٍ (الجمعة، السبت، الأحد). |
الاثنين 1 ربيع الأول 1 هـ | ليلة الاثنين 1 ربيع الأول 1 هـ | 16 سبتمبر 622م | مغادرة غار ثور وبدء الرحلة الفعلية نحو يثرب. |
الاثنين 8 ربيع الأول 1 هـ | الاثنين 8 ربيع الأول 1 هـ | 23 سبتمبر 622م | الوصول إلى قباء، على مشارف المدينة. |
الجمعة 12 ربيع الأول 1 هـ | الاثنين 12 ربيع الأول 1 هـ | 27 سبتمبر 622م | الدخول الرسمي إلى المدينة المنورة. |
الفصل الثاني: فجر الإسلام يشرق على يثرب: تأسيس المجتمع الجديد
2.1. قباء: المحطة الأولى وميلاد أول مسجد
بعد رحلة شاقة استمرت ثمانية أيام، وصل النبي ﷺ وصاحبه إلى قباء، وهي قرية تقع على مشارف يثرب، وذلك يوم الاثنين الثامن من شهر ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة. كان أهل المدينة من الأنصار، منذ أن سمعوا بخروجه ﷺ من مكة، يخرجون كل صباح إلى ظاهر المدينة في منطقة الحرة، ينتظرونه بلهفة وشوق عظيمين، فلا يعودون إلى بيوتهم إلا حين يشتد حر الظهيرة. وفي ذلك اليوم الموعود، وبعد أن عادوا إلى بيوتهم، صعد رجل من اليهود على أحد حصونهم لبعض شأنه، فرأى الركب المبارك قادمًا بثيابه البيضاء، فلم يتمالك نفسه وصرخ بأعلى صوته: “يا بني قيلة، هذا جدكم قد جاء!”، فثار المسلمون وهرعوا لاستقباله بالفرح والتكبير.
نزل النبي ﷺ في قباء عند بني عمرو بن عوف، وأقام في بيت كلثوم بن الهدم، بينما كان يجلس للناس ويستقبلهم في بيت سعد بن خيثمة. وتختلف الروايات في مدة إقامته في قباء، فمنها ما يذكر أربعة أيام، ومنها ما يصل بها إلى أربع عشرة ليلة.
كان أول عمل قام به النبي ﷺ فور وصوله هو تأسيس مسجد قباء، أول مسجد بُني في الإسلام. لم يكن هذا العمل عفويًا، بل كان إعلانًا رمزيًا بأن أساس الدولة والمجتمع الذي سيقوم في المدينة هو العبادة وتقوى الله. شارك النبي ﷺ بنفسه في وضع حجر الأساس ونقل الحجارة مع أصحابه، في مشهد يجسد التواضع والعمل الجماعي. وقد أثنى القرآن الكريم على هذا المسجد وأهله بقوله تعالى: ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: 108]. ولا يزال فضل الصلاة في هذا المسجد عظيمًا إلى اليوم، فقد ورد في الحديث الشريف أن الصلاة فيه تعدل أجر عمرة.
2.2. يوم أغرّ في تاريخ المدينة
بعد إقامته في قباء، تحرك النبي ﷺ يوم الجمعة قاصدًا قلب يثرب. وفي الطريق، أدركته صلاة الجمعة وهو في ديار بني سالم بن عوف، فصلاها في بطن وادي رانوناء، وكانت تلك أول صلاة جمعة وأول خطبة في المدينة، في مكان يعرف اليوم بـ “مسجد الجمعة”.
كان دخوله ﷺ إلى المدينة يومًا مشهودًا، لم ترَ يثرب مثله قط. خرج أهل المدينة عن بكرة أبيهم، رجالهم ونساؤهم وولدانهم، لاستقباله في مشهد احتفالي مهيب. علت أصوات التكبير والتهليل في أرجاء المدينة، وصعدت النساء والأطفال فوق أسطح البيوت لرؤيته، وهم ينشدون فرحًا بقدومه. وفي هذا السياق، يرد ذكر النشيد الخالد “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع”، الذي وإن كانت هناك نقاشات بين المؤرخين حول توقيته الدقيق، إلا أنه يعبر بصدق عن مشاعر الفرح الغامر التي عمت المدينة بقدوم نور النبوة.
تسابق زعماء الأنصار وأشرافهم، كلٌّ يريد أن يحظى بشرف استضافة رسول الله ﷺ في بيته. فكلما مرّت ناقته بدار أحدهم، أخذوا بزمامها وتوسلوا إليه أن ينزل عندهم. فكان يجيبهم بلطف وحكمة: “دعوها فإنها مأمورة”. لم يكن هذا الرد مجرد وسيلة دبلوماسية لتجنب إحراج أي طرف، بل كان تسليمًا للاختيار الإلهي الذي سيحدد مركز الدولة الجديد، ويقطع أي سبيل للتفاخر القبلي في المستقبل.
استمرت الناقة في سيرها بين الجموع حتى بركت في أرض لغلامين يتيمين من بني النجار، أمام دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. فهرع أبو أيوب فرحًا وحمل رحل النبي ﷺ إلى بيته، ليحظى بأعظم شرف يمكن أن يناله رجل من الأنصار. أقام النبي ﷺ في بيت أبي أيوب حتى تم بناء المسجد النبوي وحجراته الشريفة. ومن أروع صور الأدب والتوقير ما روي عن أبي أيوب، أنه وزوجته لم يهنأ لهما نوم في الطابق العلوي بينما رسول الله ﷺ في الطابق السفلي، فباتا ليلتهما في طرف الغرفة، وفي الصباح توسلا إلى النبي ﷺ أن ينتقل إلى الغرفة العلوية، ففعل.
2.3. بناء المسجد النبوي: قلب الدولة النابض
بمجرد تحديد مكان نزول الناقة، بادر النبي ﷺ بشراء الأرض من الغلامين اليتيمين، وأصر على دفع ثمنها رغم أنهما عرضاها عليه هبة، إرساءً لمبدأ العدل وعدم أخذ حق اليتيم. ثم بدأ العمل في بناء المسجد النبوي الشريف، ولم يكن قائدًا يوجه الأوامر من بعيد، بل شارك بنفسه في نقل اللبِن والحجارة مع أصحابه المهاجرين والأنصار، وهم ينشدون الشعر الحماسي الذي يبعث على النشاط ويوحد القلوب.
إن قرار النبي ﷺ بأن يكون بناء المسجد هو أول مشاريعه الكبرى في المدينة يحمل دلالات عميقة حول طبيعة الدولة الإسلامية. فالمسجد لم يكن مجرد مكان لأداء الصلوات الخمس، بل كان النواة التي تشكلت حولها جميع وظائف الدولة والمجتمع. لقد تجاوز دوره الوظيفة التعبدية ليصبح مركزًا شاملًا ومتكاملًا للحياة، حيث تجتمع فيه السلطتان الروحية والزمنية في تناغم فريد.
- مركز للعبادة والتربية الروحية: هو وظيفته الأساسية، حيث تقام الصلوات وتُتلى آيات القرآن، وتتزكى النفوس وتتصل بخالقها.
- مركز للحكم وإدارة الدولة: كان المسجد بمثابة ديوان الرئاسة ومجلس الشورى، ففيه كان النبي ﷺ يستقبل الوفود، ويعقد الألوية للجيوش، ويدير شؤون الدولة السياسية والعسكرية، ويقضي بين الناس.
- مؤسسة تعليمية وثقافية: كان المسجد أول جامعة في تاريخ الإسلام. فيه كان النبي ﷺ يعلم أصحابه أمور دينهم ودنياهم. وكانت “صُفّة” المسجد بمثابة سكن لطلاب العلم من الفقراء والمهاجرين (أهل الصفة)، الذين تفرغوا لتلقي العلم مباشرة من نبع النبوة.
- مركز للرعاية الاجتماعية والتكافل: كان المسجد ملجأ للفقراء والمحتاجين، وفيه كانت تُجمع الصدقات والزكاة وتُوزع على مستحقيها، مما جعله نواة لنظام التكافل الاجتماعي في الإسلام.
إن هذا الدور المحوري للمسجد يوضح أن الدولة في الإسلام ليست كيانًا علمانيًا يفصل الدين عن شؤون الحياة، بل هي كيان يقوم على أساس عقدي وأخلاقي متين، تكون فيه العبادة دافعًا للعمل، والسياسة موجهة بالقيم، والعلم مرتبطًا بالإيمان. لقد أسس النبي ﷺ مجتمعًا تكون فيه العلاقة بالله هي المنطلق لكل نشاط بشري، والمسجد هو النقطة التي تلتقي فيها السماء بالأرض، لتنظيم حياة الإنسان وفق المنهج الإلهي.
الفصل الثالث: الركائز التشريعية والاجتماعية للدولة
مع اكتمال بناء المركز الروحي والإداري للدولة، شرع النبي ﷺ في ترسيخ الأسس الاجتماعية والتشريعية التي ستحكم المجتمع الجديد وتضمن تماسكه وقوته. فكانت خطوتاه التاليتان، المؤاخاة وصحيفة المدينة، بمثابة إعلان عن ميلاد نظام اجتماعي وسياسي جديد، يتجاوز كل الأعراف القبلية التي سادت في الجزيرة العربية لقرون.
3.1. المؤاخاة: صهر المجتمع في بوتقة الإيمان
كان مجتمع المدينة يتكون من فئتين رئيسيتين من المسلمين: المهاجرون الذين تركوا ديارهم وأموالهم في مكة، والأنصار أهل المدينة الذين آووا ونصروا. كانت التحديات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي تواجه المهاجرين كبيرة، فجاء الحل النبوي العبقري في نظام “المؤاخاة”.
لم تكن المؤاخاة مجرد شعار عاطفي، بل كانت عقدًا ملزمًا ورابطة حقيقية، آخى فيها النبي ﷺ بين رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، ليصبحا أخوين في الله. قامت هذه الأخوة على حقوق وواجبات متبادلة شملت المواساة بالمال، والمشاركة في السكن، والتناصح، والمحبة، بل وصلت في بدايتها إلى حد التوارث بين الأخوين، مقدمةً على رابطة الدم، قبل أن يُنسخ حكم التوارث هذا بآيات المواريث في القرآن الكريم، وتبقى حقوق الأخوة الأخرى من النصرة والمواساة.
كان لهذه الخطوة آثار عميقة وحاسمة:
- الأثر الاقتصادي: قدمت المؤاخاة حلاً فوريًا وعمليًا لمشكلة المهاجرين الاقتصادية، حيث تكفل كل أنصاري بأخيه المهاجر، فقاسمه ماله ومسكنه وطعامه، مما وفر للمهاجرين استقرارًا ماديًا مكّنهم من البدء في حياتهم الجديدة.
- الأثر الاجتماعي: كانت المؤاخاة بمثابة ثورة اجتماعية، حيث أذابت الفوارق والعصبيات القبلية والجاهلية. لم يعد الولاء للقبيلة أو العشيرة، بل أصبح الولاء لله ورسوله، وأصبحت رابطة العقيدة والإيمان هي الرابطة الأسمى التي توحد بين أفراد المجتمع، بغض النظر عن أصولهم أو أنسابهم.
- الأثر النفسي: أزالت المؤاخاة وحشة الغربة من نفوس المهاجرين، وأشعرتهم بأنهم بين أهلهم وإخوانهم، مما عزز من تلاحم المجتمع الجديد وجعله كيانًا واحدًا متماسكًا، قادرًا على الصمود في وجه التحديات الخارجية.
وقد ضرب الأنصار أروع الأمثلة في الإيثار والكرم، والتي خلدها القرآن الكريم بقوله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]. وتتجلى هذه الروح في الموقف الخالد لسعد بن الربيع الأنصاري الذي عرض على أخيه المهاجري عبد الرحمن بن عوف أن يقاسمه نصف ماله، بل وأن يطلق له إحدى زوجتيه ليتزوجها. فقابله عبد الرحمن بن عوف بعفة وشمم، شاكرًا له كرمه، وقال: “بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق”. كما تجلت في قصة الأنصاري الذي لم يكن يملك إلا طعام صبيانه، فآثر به ضيف رسول الله ﷺ، وأطفأ السراج حتى لا يرى الضيف قلة الطعام، فنزلت فيه الآية السابقة.
3.2. صحيفة المدينة: دستور التعايش والمواطنة
لم تكن يثرب عند وصول النبي ﷺ مجتمعًا متجانسًا، بل كانت فسيفساء من القبائل والعشائر والأديان. كان بها المهاجرون من قريش، والأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج اللتين أنهكتهما الحروب الطويلة، بالإضافة إلى تكتلات يهودية قوية (بنو قينقاع، بنو النضير، بنو قريظة). لإدارة هذا التنوع وتأسيس كيان سياسي مستقر، بادر النبي ﷺ بوضع وثيقة مكتوبة تُعرف بـ “صحيفة المدينة” أو “دستور المدينة”. تُعد هذه الوثيقة، التي كُتبت في السنة الأولى للهجرة، أول دستور مدني مكتوب في التاريخ، أرست مبادئ المواطنة والتعايش السلمي بين مكونات المجتمع المختلفة.
لقد كانت هذه الخطوة ثورية بكل المقاييس في بيئة لم تعرف سوى قانون القبيلة وحكم السيف. فبدلًا من فرض نظام ديني بالقوة، اختار النبي ﷺ نهج العقد الاجتماعي المكتوب والمتفق عليه. ومن أبرز بنود هذه الصحيفة :
- تأسيس مفهوم الأمة السياسية: نصت الوثيقة في بدايتها على أن “المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم… أمة واحدة من دون الناس”. هذا التعريف للأمة لم يكن قائمًا على الدين فقط، بل على الانتماء السياسي والجغرافي لدولة المدينة، وشمل اليهود الذين دخلوا في هذا الميثاق كجزء من هذه الأمة، لهم ما لها وعليهم ما عليها في إطار المواطنة.
- ضمان الحرية الدينية: أقرت الصحيفة بشكل صريح حرية المعتقد لليهود، فنصت على أن “لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”، وهو إقرار بحق الآخر في الوجود وممارسة شعائره، وهو مبدأ لم تعرفه حضارات ذلك الزمان.
- الدفاع المشترك والأمن الجماعي: ألزمت الوثيقة جميع الأطراف الموقعة عليها، مسلمين ويهودًا، بالدفاع المشترك عن المدينة ضد أي عدوان خارجي. “وأن بينهم النصر على من دهم يثرب”، و”أن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم” في حالة الحرب. لقد حولت هذه البنود المدينة إلى وطن مشترك يتحمل الجميع مسؤولية حمايته.
- سيادة القانون والمرجعية العليا: قطعت الصحيفة مع فوضى قانون القوة والتحاكم للقبيلة، وأرست مبدأ سيادة القانون. ونصت على أن أي خلاف أو نزاع يحدث بين أهل الصحيفة، فإن مرده إلى الله ورسوله محمد ﷺ، مما جعل السلطة القضائية والتشريعية العليا في يد رئيس الدولة، ومنعت أي طرف من إجارة أو حماية مجرم أو محدث.
إن تحليل هذه الوثيقة يكشف عن عبقرية سياسية فذة، فقد أسست لدولة مدنية تقوم على المواطنة والتعايش، وتضمن حقوق الأقليات وتحدد واجباتهم. ولم تكن الصراعات التي نشبت لاحقًا مع بعض القبائل اليهودية صراعًا دينيًا، بل كانت نتيجة لخرق بنود هذا الدستور وارتكاب جريمة الخيانة العظمى بالتحالف مع أعداء الدولة، وهو ما يستوجب العقاب في كل القوانين قديمًا وحديثًا.
الفصل الرابع: حماية الدولة وتثبيت أركانها: الغزوات الفاصلة
لم يكن تأسيس الدولة في المدينة نهاية المطاف، بل كان بداية لتحديات جديدة. فقريش لم تستسلم لخسارة مكانتها، والقبائل المجاورة واليهود داخل المدينة كانوا يتربصون بالدولة الوليدة. في هذا السياق، نزل الإذن الإلهي بالقتال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39]. لم يكن القتال هدفًا للتوسع أو العدوان، بل كان ضرورة استراتيجية لردع الأعداء، وحماية حرية الدعوة، وتأمين الدولة، واسترداد الحقوق التي سلبها المشركون من المهاجرين.
4.1. من الدفاع إلى الردع: السرايا والغزوات الأولى
قبل المواجهات الكبرى، أرسل النبي ﷺ عددًا من البعثات العسكرية الصغيرة التي عُرفت بـ “السرايا”، والتي لم يشارك فيها بنفسه، بالإضافة إلى بعض الغزوات التي قادها ولم يحدث فيها قتال. كانت لهذه التحركات أهداف استراتيجية متعددة :
- استخباراتية: استكشاف الطرق المحيطة بالمدينة، والتعرف على مسالك القوافل التجارية لقريش، وجمع المعلومات عن تحركات القبائل.
- سياسية: عقد معاهدات وتحالفات مع القبائل التي تقطن على طول الطريق التجاري إلى الشام، لتحييدها أو كسب ولائها.
- عسكرية: إظهار قوة المسلمين الجديدة، وإرسال رسالة ردع واضحة لقريش وأعوانها بأن المسلمين لم يعودوا تلك الفئة المستضعفة في مكة.
- اقتصادية: تهديد شريان الحياة الاقتصادي لقريش المتمثل في تجارتها مع الشام، كوسيلة ضغط لإجبارها على الكف عن عدوانها ضد الدولة الإسلامية.
4.2. غزوة بدر الكبرى (2 هـ): يوم الفرقان
في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، وقعت المعركة التي ستغير وجه التاريخ، والتي سماها القرآن “يوم الفرقان”.
الأسباب والسياق:
بدأت الأحداث عندما قرر النبي ﷺ اعتراض قافلة تجارية ضخمة لقريش عائدة من الشام بقيادة أبي سفيان، كجزء من استراتيجية الضغط الاقتصادي. تمكن أبو سفيان من النجاة بالقافلة بعد أن غير طريقها وأرسل يستنفر قريشًا. ورغم نجاة القافلة، أصر زعماء مكة، وعلى رأسهم أبو جهل، على الخروج لقتال المسلمين، استكبارًا ورغبة في تأكيد هيبتهم التي اهتزت.
مبدأ الشورى:
عندما علم النبي ﷺ بخروج جيش قريش، لم يكن الخروج من المدينة لملاقاة جيش كبير جزءًا من الخطة الأولية. لذا، جمع أصحابه واستشارهم في الأمر. كان يريد على وجه الخصوص أن يسمع رأي الأنصار، لأن بيعة العقبة كانت تنص على حمايته داخل المدينة. وهنا، تجلت أروع صور الولاء، فقام المقداد بن عمرو من المهاجرين وقال: “امض لما أراك الله فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون”. ثم قام سعد بن معاذ سيد الأوس ممثلًا للأنصار وقال كلمته التاريخية: “…فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد…”، فسُرَّ النبي ﷺ ومضى على بركة الله.
العبقرية العسكرية:
برزت حنكة النبي ﷺ العسكرية في بدر. فعندما نزل الجيش قرب آبار بدر، أشار عليه الحباب بن المنذر، الخبير العسكري، بتغيير الموقع والنزول عند أقرب بئر من العدو، ثم ردم بقية الآبار، ليتحكم المسلمون بمصدر المياه. فقبل النبي ﷺ مشورته فورًا، قائلاً: “لقد أشرت بالرأي”. كما نظم الجيش في صفوف متراصة، وهو أسلوب قتالي لم تعهده العرب، وبنى له عريشًا في الخلفية ليكون مركزًا للقيادة وإدارة المعركة.
النصر الإلهي:
في السابع عشر من رمضان، التقى الجمعان. جيش المسلمين قوامه حوالي 314 مقاتلًا بأسلحة متواضعة، وجيش المشركين يناهز الألف مقاتل بكامل عدتهم. ورغم الفارق الهائل، حقق المسلمون نصرًا ساحقًا ومبينًا. وقد ذكر القرآن الكريم صورًا من التأييد الإلهي في هذه المعركة، كإنزال المطر لتثبيت الأقدام، وإلقاء النعاس أمنة، وإمدادهم بالملائكة تقاتل معهم.
النتائج والآثار:
كانت نتائج بدر حاسمة. قُتل سبعون من كبار صناديد قريش، من بينهم رأس الكفر أبو جهل، وأُسر سبعون آخرون، بينما استشهد من المسلمين أربعة عشر رجلًا. سياسيًا، رسخت هذه الغزوة مكانة الدولة الإسلامية كقوة لا يستهان بها في الجزيرة العربية، وهزت هيبة قريش في الصميم. أما إنسانيًا، فقد ضرب النبي ﷺ أروع الأمثلة في معاملة الأسرى، فأوصى بهم خيرًا، وكان الصحابة يؤثرونهم بالخبز ويأكلون هم التمر. وتم قبول الفدية المالية ممن يستطيع، أما من كان فقيرًا ويعرف القراءة والكتابة، فجعل فداءه أن يعلم عشرة من صبيان المسلمين، في قرار حضاري فريد من نوعه يظهر أولوية العلم في الإسلام حتى في ظروف الحرب.
4.3. غزوة أحد (3 هـ): ابتلاء وتمحيص
لم تهدأ قريش بعد هزيمتها المدوية في بدر، فجمعت حلفاءها وأعدت جيشًا ضخمًا قاده أبو سفيان للثأر والانتقام واستعادة هيبتها المفقودة.
الشورى والخطة:
مرة أخرى، لجأ النبي ﷺ إلى الشورى. كان رأيه الشخصي البقاء في المدينة واستدراج العدو إلى أزقتها، حيث يعرف المسلمون دروبها جيدًا. لكن أغلبية الصحابة، خاصة الشباب الذين تحمسوا للقتال ولم يشاركوا في بدر، ألحوا على الخروج لملاقاة العدو في ساحة مفتوحة. احترامًا لرأي الأغلبية، نزل النبي ﷺ على رغبتهم وخرج بالجيش. عسكر المسلمون عند سفح جبل أحد، وجعلوا ظهورهم إلى الجبل، ووضع النبي ﷺ خطة دفاعية محكمة، كان أهم عناصرها وضع خمسين من أمهر الرماة على جبل صغير قريب (عُرف فيما بعد بجبل الرماة) بقيادة عبد الله بن جبير، وأصدر لهم أمرًا عسكريًا صريحًا وحاسمًا: “إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم”.
تحول المعركة:
في بداية المعركة، حقق المسلمون انتصارًا باهرًا، وهرب المشركون تاركين وراءهم الغنائم. وعند هذه النقطة وقع الخطأ الفادح. ظن معظم الرماة أن المعركة قد حسمت، فخالفوا الأمر الصريح للقائد ونزلوا من الجبل لجمع الغنائم، مدفوعين بحب الدنيا. لم يبقَ على الجبل إلا القائد عبد الله بن جبير ونفر قليل. استغل قائد فرسان المشركين آنذاك، خالد بن الوليد، هذه الثغرة بعبقرية عسكرية، فالتف بفرسانه بسرعة من خلف الجبل وهاجم مؤخرة الجيش الإسلامي، وقُتل من بقي من الرماة. انقلبت الموازين رأسًا على عقب، وحوصر المسلمون، واضطربت صفوفهم، واستشهد منهم سبعون، من بينهم أسد الله حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير.
الدروس والعبر:
لم تكن أحد مجرد هزيمة عسكرية، بل كانت درسًا تربويًا وإيمانيًا عميقًا للأمة.
- خطورة المعصية: أظهرت الغزوة بشكل عملي أن مخالفة أمر القائد الشرعي، ولو في تفصيل واحد، يمكن أن تقلب النصر إلى هزيمة.
- الابتلاء والتمحيص: كانت امتحانًا إلهيًا كشف معادن الرجال، فميزت بين المؤمن الصادق والمنافق الذي انكشف أمره بانسحاب عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش قبل بدء المعركة.
- الثبات حول القيادة: في خضم الفوضى وإشاعة مقتل النبي ﷺ، تجلت بطولات نادرة لثلة من الصحابة الذين شكلوا درعًا بشريًا حوله، ودافعوا عنه ببسالة منقطعة النظير، مثل طلحة بن عبيد الله الذي شُلت يده وهو يقي النبي ﷺ، وأبي دجانة الذي جعل من ظهره ترسًا له، ونسيبة بنت كعب التي قاتلت قتال الرجال.
- ليست هزيمة مطلقة: رغم الخسائر الفادحة، لم تحقق قريش هدفها الاستراتيجي بالقضاء على الدولة الإسلامية، بل انسحبت من أرض المعركة. وقد أثبت النبي ﷺ أن قوة المسلمين لم تنكسر بخروجه في اليوم التالي مباشرة في “غزوة حمراء الأسد” لمطاردة جيش قريش، مما ألقى الرعب في قلوبهم ومنعهم من التفكير في العودة.
4.4. غزوة الخندق (5 هـ): عبقرية الدفاع وحسم التحالفات
بعد عامين من أحد، جرت المحاولة الأخيرة والأضخم من قبل أعداء الإسلام للقضاء على الدولة في المدينة.
تكوين الأحزاب:
كان المحرك الرئيسي لهذه الغزوة هم زعماء يهود بني النضير الذين أجلاهم النبي ﷺ من المدينة بسبب غدرهم وتآمرهم. انطلقوا إلى مكة وحرضوا قريشًا، ثم طافوا على قبائل غطفان وأغروهم بثمار خيبر، فنجحوا في تشكيل تحالف عسكري ضخم (الأحزاب) قوامه عشرة آلاف مقاتل، بهدف استئصال المسلمين.
الاستراتيجية الدفاعية المبتكرة:
عندما وصلت الأخبار إلى المدينة، عقد النبي ﷺ مجلسًا للشورى. وهنا، تقدم الصحابي الجليل سلمان الفارسي باقتراح استراتيجي عبقري لم تعهده العرب في حروبها، وهو حفر خندق حول المدينة من الجهة الشمالية، وهي الجهة الوحيدة المكشوفة التي يمكن للجيوش الكبيرة اقتحامها، بينما بقية الجهات محمية بالحرار والجبال وبساتين النخيل. وافق النبي ﷺ على الفور على هذه الخطة الدفاعية المبتكرة، وشارك بنفسه مع ثلاثة آلاف من المسلمين في أعمال الحفر الشاقة في جو من البرد والجوع. وخلال الحفر، وقعت معجزات وبشارات بفتوحات مستقبلية (بلاد فارس والروم واليمن)، كانت ترفع من معنويات الصحابة وتثبت يقينهم.
الحصار والخيانة:
فوجئ جيش الأحزاب عند وصوله بالخندق الذي منعهم من الاقتحام، فاضطروا إلى فرض حصار طويل على المدينة استمر قرابة شهر. زادت المحنة على المسلمين عندما نجح حيي بن أخطب، زعيم بني النضير، في إقناع يهود بني قريظة داخل المدينة بنقض عهدهم مع المسلمين والانضمام إلى الأحزاب، مما شكل طعنة في الظهر وخطرًا داخليًا داهمًا. وصف القرآن شدة الموقف بقوله:
﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ [الأحزاب: 10].
الحرب النفسية والنصر الإلهي:
في خضم هذه الأزمة، تجلت حكمة النبي ﷺ في إدارة الصراع. جاءه رجل من غطفان يُدعى نعيم بن مسعود وأعلن إسلامه سرًا. فوجهه النبي ﷺ في مهمة استخباراتية بارعة، مستثمرًا علاقاته القديمة مع أطراف التحالف، وقال له: “إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة”. فذهب نعيم إلى بني قريظة وأقنعهم بأن يطلبوا رهائن من أشراف قريش وغطفان قبل القتال لضمان عدم تخليهم عنهم. ثم ذهب إلى قريش وغطفان وحذرهم من أن اليهود نادمون على غدرهم ويريدون أخذ رهائن منهم ليسلموهم إلى محمد. نجحت هذه الخطة في زرع بذور الشك والفرقة بين صفوف الأحزاب، وأدت إلى انهيار الثقة بينهم. ثم جاء النصر الإلهي الحاسم، فأرسل الله على معسكرهم ريحًا شديدة البرودة في ليلة مظلمة، اقتلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، وألقت الرعب في قلوبهم، فلم يجدوا بدًا من الرحيل في ليلة واحدة، مهزومين مدحورين دون أن يحققوا أيًا من أهدافهم.
النتائج الحاسمة:
كانت غزوة الخندق نقطة تحول استراتيجية كبرى. لقد كانت آخر محاولة هجومية كبرى من قبل أعداء الإسلام. بعدها، تغير ميزان القوى بشكل كامل، وأعلن النبي ﷺ المرحلة الجديدة بقوله: “الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم”. كما مهدت هذه الغزوة الطريق لمحاسبة بني قريظة على خيانتهم العظمى، وتطهير المدينة من آخر بؤر الغدر والتآمر.
ملامح الدولة النبوية: نموذج العدل والرحمة والقيادة الحكيمة
في السنوات الخمس الأولى التي تلت الهجرة، شهدت المدينة المنورة تحولًا جذريًا، من واحة متناحرة تسودها الثارات القبلية، إلى دولة فتية متماسكة، ذات هوية واضحة ونظام فريد. لقد قامت هذه الدولة على ركائز متينة ومتكاملة وضعها النبي ﷺ بحكمة إلهية ورؤية ثاقبة:
- أساس عقدي وروحي: تمثل في بناء المسجد ليكون قلب المجتمع النابض، الذي يربط كل شؤون الحياة بالعبودية لله والتوجه إليه.
- أساس اجتماعي: تجسد في المؤاخاة التي صهرت التنوع البشري في وحدة إيمانية، وقدمت نموذجًا فريدًا في التكافل والإيثار.
- أساس دستوري وقانوني: تمثل في صحيفة المدينة، التي أرست قواعد المواطنة والتعايش السلمي والعدالة بين جميع مكونات المجتمع، مسلمين وغير مسلمين.
- أساس دفاعي وعسكري: تجلى في بناء قوة ردع قادرة على حماية كيان الدولة وضمان استقرارها، وتحويل التهديدات إلى فرص لترسيخ وجودها.
إن هذه المرحلة التأسيسية تكشف عن جوانب متعددة من شخصية النبي ﷺ كقائد استثنائي للدولة. فهو المشرّع الحكيم الذي يضع دستورًا يعترف بالتعددية ويحفظ الحقوق. وهو
القائد العسكري الفذ الذي يجمع بين التخطيط الدقيق، ومبدأ الشورى، والابتكار التكتيكي، والتوكل العميق على الله. وهو قبل كل ذلك
المربي الرحيم الذي تتجلى رحمته في أبهى صورها في عفوه عند المقدرة ، وعدله حتى مع أعدائه، وتواضعه الجم في بيته ومع أصحابه ، وإنسانيته الفائقة في التعامل مع الأسرى.
لقد نجحت الدولة النبوية في سنواتها الأولى في الصمود أمام أعنف التحديات، لتنتقل بعدها من مرحلة الدفاع وتثبيت الأركان إلى مرحلة جديدة من الانتشار العالمي للدعوة، وهي المرحلة التي سيمهد لها صلح الحديبية، وتتوج بفتح مكة، وتوحيد شبه الجزيرة العربية تحت راية الإسلام، وهو ما سيكون محور السلسلة القادمة بإذن الله.