إعلان

بعد أن استعرضنا في السلسلة الأولى حياة النبي محمد ﷺ قبل البعثة، من ولادته حتى بلوغه الأربعين، نبدأ الآن رحلة جديدة ومفصلية. فقبل أن يتلألأ نور الوحي في غار حراء، كانت مكة تعيش في ظلمات الشرك، وتضج جنبات الكعبة بالأصنام المنصوبة. وفي خضم هذا الواقع، كان محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، يعيش حالة من الصفاء الروحي والتأمل العميق. لقد عُرف في قومه بلقب “الصادق الأمين” ، وهي شهادة جماعية من مجتمعه بنزاهته المطلقة وأمانته التي لا تشوبها شائبة. هذه السمعة الطاهرة لم تكن مجرد صفة شخصية، بل كانت تمهيداً إلهياً وتأسيساً متيناً للمصداقية التي ستقوم عليها أعظم رسالة عرفتها البشرية. كان حبه للخلوة والتفكر في ملكوت السماوات والأرض إرهاصاً وبشارة بالحدث الجلل الذي كان على وشك أن يغير مجرى التاريخ إلى الأبد.

القسم الأول: فجر الوحي في غار حراء

كانت لحظة نزول الوحي نقطة تحول فاصلة في تاريخ البشرية، حيث اتصلت السماء بالأرض برسالة خاتمة. لم تكن هذه اللحظة حدثاً عابراً، بل كانت تجربة عميقة ومهيبة، أسست لمنهج النبوة، وكشفت عن ردود الفعل الإنسانية الأولى تجاه الأمر الإلهي.

1.1 الإرهاصات والمقدمات: الرؤيا الصادقة وحب الخلاء

لم يأتِ الوحي فجأة دون مقدمات، بل مهّد الله سبحانه وتعالى لنبيه ﷺ الأمر تمهيداً لطيفاً. فكما ورد في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كان أول ما بُدئ به رسول الله ﷺ من الوحي هو “الرؤيا الصادقة” في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت واضحة جلية كوضوح ضياء الصباح، وهو ما يُعرف بـ “فلق الصبح”. استمرت هذه المرحلة فترة من الزمن، شكلت تهيئة روحية ونفسية للنبي ﷺ، وتدريباً له على تلقي الإشارات من عالم الغيب، مما جعل فكرة الوحي تتآلف مع روحه الشريفة شيئاً فشيئاً.

بعد ذلك، حُبّب إليه الخلاء، فكان يختلي بنفسه في غار حراء، وهو نقب في جبل يقع شمال مكة. وهناك كان يمكث الليالي ذوات العدد يتعبد ويتفكر في خلق الكون، على ما بقي من ملة جده إبراهيم عليه السلام الحنيفية، مبتعداً عن عبادة الأوثان التي لم يسجد لها قط. كانت هذه الخلوة الروحية بمثابة تنقية للنفس وتصفية للقلب، استعداداً لتلقي الأمانة العظمى.

1.2 اللقاء المهيب: نزول جبريل عليه السلام

وبينما هو في غار حراء في ليلة من ليالي شهر رمضان، وقد بلغ من العمر أربعين سنة قمرية ، فجأه الحق ونزل عليه أمين الوحي جبريل عليه السلام. تختلف الروايات في تحديد اليوم الدقيق، فمنها ما يشير إلى ليلة الاثنين الحادي والعشرين من رمضان ، ومنها ما يوافق 10 أغسطس عام 610م أو 8 أغسطس 611م ، وهذا الاختلاف يعكس دقة المؤرخين في نقل الروايات المتعددة.

إعلان

كان اللقاء الأول مهيباً ومزلزلاً. قال له الملك: “اقرأ”. فأجابه النبي الأمي الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة: “ما أنا بقارئ”. فأخذه الملك وضمه ضمة شديدة حتى بلغ منه الجهد والتعب، ثم أرسله وكرر الأمر: “اقرأ”. فأجاب النبي ﷺ بنفس الإجابة: “ما أنا بقارئ”. فضمه الملك مرة ثانية بأشد من الأولى، ثم أرسله وقال: “اقرأ”. فقال للمرة الثالثة: “ما أنا بقارئ”. فأخذه فغطه الثالثة ثم أرسله، وقال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
(سورة العلق: 1-5).

كانت هذه الآيات الخمس أول ما نزل من القرآن الكريم. لقد كانت هذه التجربة الجسدية والنفسية العنيفة دليلاً قاطعاً على أن الأمر لم يكن وهماً أو حديث نفس، بل حقيقة خارجية، واقعية، ومن مصدر قوة عليا لا قِبَل لبشر بها.

1.3 العودة إلى السكن: دور السيدة خديجة وورقة بن نوفل

رجع رسول الله ﷺ بالآيات يرجف فؤاده من هول الموقف، فدخل على زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وهو يقول: “زملوني زملوني” (أي غطوني). فزملوه حتى ذهب عنه الروع والفزع، ثم قص عليها ما حدث وقال: “لقد خشيت على نفسي”.

هنا تجلى دور السيدة خديجة رضي الله عنها كزوجة وحبيبة وصديقة، فلم يداخلها شك أو ريبة، بل كانت أول من آمن به وصدقه، وقدمت له الدعم النفسي والمعنوي الفوري. قالت كلماتها الخالدة التي كانت بلسماً لقلبه الخائف: “كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”. لقد بنت استنتاجها على منطق راسخ قائم على شخصيته ﷺ وأفعاله؛ فالرجل الذي يحمل كل هذه الخصال النبيلة لا يمكن أن يخذله الله.

لم تكتفِ السيدة خديجة بذلك، بل أخذت الأمر إلى مستوى التثبت العلمي والمعرفي. انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، الذي كان شيخاً كبيراً قد تنصر في الجاهلية، وكان يقرأ الكتاب بالعبرانية، فكان من أهل العلم بالكتب السماوية السابقة. فلما أخبره النبي ﷺ بما رأى، أدرك ورقة بعلمه حقيقة ما حدث، فقال: “هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى”. والناموس هو صاحب السر، والمراد به جبريل عليه السلام. ثم أضاف ورقة نبوءة تحمل في طياتها بشرى وتحدياً: “يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك”. فتساءل النبي ﷺ في استغراب: “أوَمُخرجيّ هم؟”. فأجابه ورقة بحقيقة تاريخية ثابتة: “نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي”.

وهكذا، اكتملت حلقات الدعم الأولى: الدعم العاطفي والأسري من خديجة، والدعم العلمي والمعرفي من ورقة. لقد كان هذا الترتيب الإلهي ضرورياً لتثبيت فؤاد النبي ﷺ في مواجهة أعظم مسؤولية في تاريخ البشر.

1.4 فترة الوحي والحكمة منها

بعد هذا اللقاء الأول المهيب، انقطع الوحي فترة من الزمن، قيل إنها بلغت أربعين يوماً. وقد أحدث هذا الانقطاع في نفس النبي ﷺ حزناً عميقاً وشوقاً عظيماً إلى معاودة الاتصال بالسماء، حتى ظن أن ربه قد تركه. وقد وردت بعض الروايات التي تصف شدة حزنه، إلا أن بعضها، كتلك التي تشير إلى تفكيره في إلقاء نفسه من شواهق الجبال، قد أشار المحققون من العلماء كالإمام البخاري إلى ضعف في سندها، وتحديداً في قول الزهري “فيما بلغنا”، مما يعني أنها ليست مسندة بشكل كامل.
كانت لهذه الفترة حكم عظيمة، منها:

  1. إزالة الروع: ليزول عنه ﷺ ما كان قد شعر به من الخوف والفزع من اللقاء الأول.
  2. إثارة الشوق: ليحدث في نفسه الشوق واللهفة إلى عودة الوحي، فيتلقاه في المرة التالية بلهفة المحب المشتاق.
  3. التأكيد على المصدر الإلهي: ليتأكد النبي ﷺ والعالمون من بعده أن هذا الوحي ليس أمراً ذاتياً أو شيئاً تحت سيطرته، بل هو أمر إلهي محض ينزل بأمر الله متى شاء وكيف شاء، كما قال تعالى: “وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ” (سورة مريم، الآية 64).

إن هذا التدرج في بداية النبوة — من الرؤيا الصادقة، إلى اللقاء المباشر، ثم الدعم الأسري والمعرفي، ثم فترة الانقطاع التي عمّقت الشوق — يكشف عن منهج تربوي إلهي فريد، صُمم بعناية فائقة لإعداد النبي ﷺ نفسياً وروحياً وعقلياً لحمل الرسالة الخاتمة. كما أن الجمع بين تصديق خديجة القائم على معرفتها بخلقه، وتثبيت ورقة القائم على علمه بالكتب، يوضح أن الإسلام منذ لحظته الأولى قام على أساس متين يجمع بين الإيمان القلبي والبرهان العقلي.


القسم الثاني: الدعوة سراً: بناء النواة الصلبة

بعد نزول الوحي وتثبيت فؤاد النبي ﷺ، بدأت مرحلة جديدة وحاسمة، وهي مرحلة الدعوة إلى الله. وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تبدأ هذه المرحلة في الخفاء، لترسيخ القواعد وبناء الأساس المتين الذي سيحمل عبء الرسالة في مواجهة عالم بأسره.

2.1 ثلاث سنوات من العمل السري: الحكمة والمنهج

استمرت الدعوة في طورها السري ثلاث سنوات كاملة على القول الراجح عند أهل السير ، وإن ذكر البعض أنها استمرت أربع سنوات. لم تكن هذه السرية تردداً أو خوفاً، بل كانت منهجاً استراتيجياً حكيماً تمليه طبيعة المرحلة وظروفها. فمكة لم تكن مجرد مدينة، بل كانت المركز الديني والاجتماعي للعرب، وقلعة الوثنية الراسخة. ومن هنا، كانت الحكمة من سرية الدعوة تكمن في تحقيق عدة أهداف:

  • حماية الدعوة وأتباعها: كان من الضروري حماية هذه النبتة الوليدة من بطش قريش وقوتها الغاشمة، فلو جهر بالدعوة منذ اليوم الأول لتم القضاء عليها في مهدها قبل أن تشتد وتتقوى.
  • التربية والتكوين: كانت هذه الفترة بمثابة معسكر تربوي مغلق، ركز فيه النبي ﷺ على بناء الجيل الأول من المؤمنين، وتعميق العقيدة في نفوسهم، وتزكيتهم بالقرآن، وتأسيس مجتمع صغير قائم على الأخوة والإيمان. هذا الجيل هو الذي سيحمل على عاتقه أعباء الدعوة الجهرية وما يتبعها من اضطهاد وتحديات.
  • الانتقاء الدقيق: في هذه المرحلة، توجه النبي ﷺ بدعوته إلى من يثق فيهم ويرى فيهم الخير والاستعداد لقبول الحق، فبدأ بأهل بيته وأقرب أصدقائه، ممن يعرفهم ويعرفونه جيداً.

2.2 السابقون الأولون: طليعة الإيمان

كانت الاستجابة الأولى للدعوة من أقرب الناس إلى النبي ﷺ، مما شكل دليلاً إضافياً على صدقه، فالمرء لا يخدع أهله. وتنوعت هذه الطليعة المؤمنة لتشمل كافة شرائح المجتمع المكي، في إشارة مبكرة إلى عالمية الرسالة:

  • من النساء: زوجته الوفية، خديجة بنت خويلد، كانت أول من آمن وصدّق على الإطلاق، دون تردد أو تساؤل.
  • من الرجال الأحرار: صديقه الحميم ورفيق دربه، أبو بكر الصديق، الذي أسلم فوراً، وكان إسلامه فتحاً للإسلام.
  • من الصبيان: ابن عمه علي بن أبي طالب، الذي كان يعيش في كنفه ورعايته، وكان عمره آنذاك حوالي عشر سنوات.
  • من الموالي (العبيد المحررين): مولاه وحِبّه زيد بن حارثة.

لم يكن إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه مجرد إيمان فردي، بل كان شعلة انطلقت لتضيء قلوب الآخرين. فبمجرد إسلامه، تحول إلى داعية نشط، وبفضل مكانته الاجتماعية وعقله الراجح، أسلم على يديه صفوة من خيرة رجال قريش، الذين أصبحوا فيما بعد من أعمدة الإسلام وقادته الكبار. ومن أبرز هؤلاء خمسة من العشرة المبشرين بالجنة: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله.

إن التركيبة الفريدة لهؤلاء السابقين الأولين تكشف عن قصد إلهي بديع. فالمجتمع الإسلامي الأول لم يكن مقتصراً على فئة دون أخرى؛ بل ضم الزوجة، والصديق، والفتى، والمولى، ثم الأثرياء ووجهاء القوم. لقد كانت رسالة واضحة منذ البداية أن هذا الدين جاء ليجمع البشرية تحت راية واحدة، لا فضل فيها لعربي على أعجمي، ولا لغني على فقير، إلا بالتقوى.

الترتيب الاسم القبيلة/العشيرة المكانة الاجتماعية ملاحظات
1 خديجة بنت خويلد بنو أسد (قريش) (زوجة النبي ﷺ) أول من آمن على الإطلاق.
2 علي بن أبي طالب بنو هاشم (قريش) (صبي/ابن عم النبي) أول من أسلم من الصبيان.
3 أبو بكر الصديق بنو تيم (قريش) (رجل حر/صديق النبي) أول من أسلم من الرجال الأحرار.
4 زيد بن حارثة بنو كلب (مولى/ابن النبي بالتبني) أول من أسلم من الموالي.
5 عثمان بن عفان بنو أمية (قريش) (رجل حر) من العشرة المبشرين بالجنة، أسلم على يد أبي بكر.
6 الزبير بن العوام بنو أسد (قريش) (رجل حر) من العشرة المبشرين بالجنة، أسلم على يد أبي بكر.
7 عبد الرحمن بن عوف بنو زهرة (قريش) (رجل حر) من العشرة المبشرين بالجنة، أسلم على يد أبي بكر.
8 سعد بن أبي وقاص بنو زهرة (قريش) (رجل حر) من العشرة المبشرين بالجنة، أسلم على يد أبي بكر.
9 طلحة بن عبيد الله بنو تيم (قريش) (رجل حر) من العشرة المبشرين بالجنة، أسلم على يد أبي بكر.
10 الأرقم بن أبي الأرقم بنو مخزوم (قريش) (فتى) صاحب الدار التي أصبحت أول مركز للدعوة.
11 عمار بن ياسر حليف بني مخزوم (حليف/مستضعف) من أوائل المسلمين الذين عُذبوا.
12 بلال بن رباح حبشي الأصل (عبد) مؤذن الرسول، عُذب عذاباً شديداً.
13 عبد الله بن مسعود هذيل (حليف بني زهرة) (حليف/مستضعف) من فقهاء الصحابة.

ملاحظة: القائمة أعلاه تمثل عينة من السابقين الأولين وتستند إلى مصادر متعددة.

2.3 دار الأرقم: أول مركز للدعوة والتربية

مع ازدياد عدد المسلمين، برزت الحاجة إلى مكان آمن ومنعزل يجتمعون فيه بعيداً عن أعين قريش المتربصة. فوقع اختيار النبي ﷺ على دار الأرقم بن أبي الأرقم. لم يكن هذا الاختيار عشوائياً، بل كان قراراً استراتيجياً بالغ الذكاء يدل على فهم عميق للواقع الاجتماعي والسياسي في مكة.

فالأرقم كان فتى صغيراً في السادسة عشرة من عمره تقريباً، ولم يكن إسلامه معروفاً، وبالتالي لن يخطر ببال قريش أن تبحث عن مركز تجمع المسلمين في بيت فتى ناشئ. والأهم من ذلك، أن الأرقم كان من بني مخزوم، وهي القبيلة التي يتزعمها ألد أعداء الإسلام كأبي جهل. هذا الانتماء القبلي وفر غطاءً مثالياً، فلم يكن أحد يتصور أن دعوة محمد الهاشمي ستتخذ من معقل خصومها مركزاً لها.

أصبحت دار الأرقم، الواقعة عند جبل الصفا، أول جامعة إسلامية. فيها كان النبي ﷺ يلتقي بأصحابه، يتلو عليهم ما ينزل من القرآن، ويعلمهم الحكمة، ويزكي نفوسهم، ويربيهم على معاني الأخوة والصبر والثبات. وفي هذه الدار المباركة، أسلم العديد من كبار الصحابة مثل عمار بن ياسر وصهيب الرومي، وفيها أيضاً أعلن عمر بن الخطاب إسلامه في مرحلة لاحقة، والذي كان إسلامه نقطة تحول كبرى في تاريخ الدعوة.


القسم الثالث: الجهر بالدعوة: الصدع بالحق

بعد ثلاث سنوات من التأسيس السري، حان الوقت لتنتقل الدعوة من الهمس إلى الصياح، ومن العمل الفردي إلى المواجهة المجتمعية. جاء الأمر الإلهي واضحاً، لتبدأ مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والمواجهات، كشفت عن عمق العداء الذي تكنه قريش للحق الجديد.

3.1 الأمر الإلهي بالجهر: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}

انتهت مرحلة السرية بنزول الأمر الإلهي الصريح بالجهر بالدعوة. بدأ الأمر بتوجيه الخطاب إلى الدائرة الأقرب، عشيرة النبي ﷺ، في قوله تعالى: “وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ” (سورة الشعراء، الآية 214). ثم توسع الأمر ليشمل الناس كافة، مع إعلان التحدي والمفاصلة مع الشرك والمشركين، في قوله تعالى:
“فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ” (سورة الحجر، الآية 94). كلمة “فاصدع” تحمل دلالة القوة والوضوح والشق، كأنها تشق جدار الصمت والوثنية الذي كان يحيط بمكة.

3.2 على جبل الصفا: الإعلان الكوني

امتثالاً لأمر ربه، اختار النبي ﷺ منبراً إعلامياً فريداً ومكشوفاً للجميع: جبل الصفا. صعد عليه، ونادى بأعلى صوته بالطريقة التي كانت العرب تنادي بها للتحذير من خطر داهم، فاجتمعت إليه بطون قريش. لم يبدأ ﷺ بدعوتهم مباشرة، بل استخدم أسلوباً حوارياً ومنطقياً لإقامة الحجة عليهم. سألهم: “أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟”. كان سؤاله يستند إلى رصيده الأخلاقي الذي بنوه هم بأنفسهم على مدى أربعين عاماً. فجاء جوابهم بالإجماع: “نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً”.

بعد أن انتزع منهم هذه الشهادة الجماعية بصدقه، بنى عليها دعوته، فقال: “فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد”. لقد وضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يصدقوه في هذا الخبر كما صدقوه في كل ما سبق، وإما أن يناقضوا شهادتهم التي أعلنوها للتو. وبهذا، لم تكن دعوتهم مجرد وعظ، بل كانت إقامة حجة منطقية عليهم منذ اللحظة الأولى للجهر.

3.3 رد الفعل الأول: عداوة أبي لهب

كانت أول طعنة وأقسى رفض من أقرب الناس إليه، عمه عبد العزى بن عبد المطلب، المكنى بأبي لهب. لم يكتفِ بالرفض، بل قاطع النبي ﷺ بفظاظة أمام الملأ، قائلاً: “تباً لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟”. كان هذا الموقف بمثابة إعلان حرب من داخل البيت الهاشمي نفسه، وهو ما شجع الآخرين على الجرأة على النبي ﷺ.

جاء الرد الإلهي حاسماً وفورياً، حيث نزلت سورة كاملة باسمه تفضح مصيره:
“تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ” (سورة المسد، الآية 1).

ولم تقتصر عداوة أبي لهب على الكلام، بل امتدت إلى أفعال تهدف إلى إيذاء النبي ﷺ نفسياً واجتماعياً. فقد أمر ابنيه، عتبة وعتيبة، اللذين كانا قد عقدا على ابنتي النبي ﷺ، رقية وأم كلثوم، بأن يطلقا ابنتي محمد، كنوع من الضغط والإهانة الأسرية. إن هذا العداء من العم القريب أوضح منذ البداية أن الرابطة الجديدة التي جاء بها الإسلام هي رابطة العقيدة، وهي أقوى من رابطة الدم والنسب.

3.4 تحليل دوافع قريش للعداء

لم يكن رفض قريش للدعوة الإسلامية مجرد خلاف ديني، بل كان صراعاً وجودياً متشابك الدوافع، يهدد مصالحهم ونظام حياتهم بالكامل:

  1. المصالح الاقتصادية والدينية: كانت مكة مركزاً دينياً واقتصادياً للعرب، تستمد مكانتها من وجود الكعبة والأصنام حولها، ومن مواسم الحج والتجارة المرتبطة بها. الدعوة إلى التوحيد كانت تعني هدم هذا النظام بالكامل، والقضاء على مصدر سيادتهم وثروتهم.
  2. العصبية القبلية والزعامة: قام المجتمع المكي على التفاخر بالأنساب والتنافس بين القبائل. جاء الإسلام بمبدأ المساواة المطلقة بين البشر، وأن التفاضل بالتقوى فقط. هذا المبدأ كان ثورة على النظام الطبقي الأرستقراطي، وتهديداً مباشراً لزعامات قريش التي كانت ترى في ظهور نبي من بني هاشم خطراً على نفوذها السياسي.
  3. التمسك بتقاليد الآباء: كان التقليد الأعمى للآباء والأجداد هو الحاجز النفسي الأقوى. لقد وجدوا في الدعوة الجديدة سفاهة لأحلامهم، وعيباً لآلهتهم، وتكفيراً لآبائهم. كان التخلي عن دين الآباء يعني التخلي عن هويتهم وتاريخهم بأكمله، وهو ما لم يكونوا مستعدين له.
  4. الخوف من التغيير الاجتماعي: دعا الإسلام إلى منظومة أخلاقية صارمة تحرم الزنا والظلم ووأد البنات والربا، وهي ممارسات كانت متجذرة في حياتهم. لقد كانت الدعوة الجديدة تطالبهم بتغيير جذري في سلوكهم ونمط حياتهم، وهو ما قاوموه بشدة.

القسم الرابع: بوتقة الاضطهاد: ثبات وبلاء

بعد الجهر بالدعوة، وفشل محاولات الإقناع والمساومة، كشّرت قريش عن أنيابها، وبدأت مرحلة جديدة من المواجهة، استخدمت فيها كل أساليب الاضطهاد النفسي والجسدي، في محاولة يائسة لإطفاء نور الله. لكن هذه المرحلة كانت في حقيقتها بوتقة صهرت فيها النفوس، وميّزت الخبيث من الطيب، وصنعت جيلاً من المؤمنين الأقوياء الذين لا تلين لهم قناة.

4.1 الحرب النفسية والإيذاء المعنوي للنبي ﷺ

كانت أولى أسلحة قريش هي الحرب النفسية وتشويه السمعة. أطلقوا على النبي ﷺ وابلاً من الاتهامات الباطلة في محاولة لزعزعة مصداقيته وتنفير الناس منه. فنعتوه بأنه ساحر، أو مجنون، أو شاعر، أو كاهن. كما حاولوا الطعن في مصدر رسالته، القرآن الكريم، فزعموا أنه “أساطير الأولين” أو “أضغاث أحلام”. وكانوا يتعمدون إثارة الضجيج واللغو عند تلاوته ليمنعوا تأثيره من الوصول إلى القلوب، كما قال تعالى:
“وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ” (سورة فصلت، الآية 26).

ولم يقتصر الأذى على ذلك، بل امتد إلى الإهانة الشخصية المباشرة. فكان عمه أبو لهب وزوجته أم جميل، التي وصفها القرآن بـ “حَمَّالَةَ الْحَطَبِ”، من أشدهم إيذاءً له، حيث كانت تضع الشوك والقاذورات في طريقه وأمام بيته ليلاً.

4.2 الإيذاء الجسدي للنبي ﷺ

على الرغم من أن عمه أبا طالب كان يوفر له حماية قبلية منعت قريش من قتله، إلا أن ذلك لم يمنع بعض سفهائهم من التطاول عليه جسدياً في عدة حوادث مؤلمة:

  • حادثة سلا الجزور: بينما كان النبي ﷺ يصلي ساجداً عند الكعبة، وحوله نفر من زعماء قريش، قام الشقي عقبة بن أبي معيط، بتحريض من أبي جهل، بوضع “سلا جزور” (وهي المشيمة الملوثة بالدم والفرث) على ظهره وهو ساجد. فبقي ﷺ على حاله لم يرفع رأسه من شدة ثقلها وقذارتها، حتى جاءت ابنته فاطمة رضي الله عنها، وهي صبية صغيرة، فأزالته عنه وهي تبكي، ودعت على من فعل ذلك.
  • محاولة الخنق: في حادثة أخرى، أقبل نفس الرجل، عقبة بن أبي معيط، والنبي ﷺ يصلي، فلوى ثوبه حول عنقه وخنقه خنقاً شديداً. وفي هذه اللحظة الحرجة، هبّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه فدفع عقبة عن النبي ﷺ وهو يصيح قولته الشهيرة المدوية: “…أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ…” (سورة غافر، الآية 28).

4.3 تعذيب المستضعفين: نماذج من الصبر الأسطوري

إذا كان النبي ﷺ قد ناله الأذى رغم حماية عمه، فقد صبّت قريش جام غضبها وعذابها على أتباعه من المستضعفين الذين لا عشيرة لهم تحميهم، خاصة العبيد والموالي. لقد كانت مشاهد تعذيبهم فصولاً من الوحشية التي تقشعر لها الأبدان، ولكنها في المقابل كانت أروع ملاحم الصبر والثبات في تاريخ الإيمان.

  • بلال بن رباح: كان عبداً لأمية بن خلف، الذي كان يخرجه في وقت الظهيرة عندما تكون رمال الصحراء كالجمر، فيطرحه عليها عارياً، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ويقول له: “لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد”. وفي خضم هذا العذاب الذي لا يطاق، لم يكن لبلال من جواب إلا كلمة واحدة تهز أركان الشرك: “أحدٌ.. أحدٌ”. وظل على هذا الحال حتى مر به أبو بكر الصديق فاشتراه وأعتقه لوجه الله.
  • آل ياسر: كانت هذه الأسرة (ياسر وزوجته سمية وابنهما عمار) من أوائل من أسلموا، ولم تكن لهم عشيرة تحميهم، فتولى تعذيبهم بنو مخزوم وعلى رأسهم أبو جهل. كانوا يخرجونهم إلى رمضاء مكة ويعذبونهم بأشد أنواع العذاب. وكان النبي ﷺ يمر بهم فيواسيهم ويثبتهم ببشارة عظيمة: “صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة”.
  • أول شهيدة في الإسلام: في أحد أيام التعذيب، وأمام صمود السيدة سمية بنت خباط وثباتها، فقد أبو جهل صوابه وطعنها بحربة في موضع عفتها، فارتقت روحها إلى بارئها كأول شهيدة في الإسلام. ولحق بها زوجها ياسر شهيداً تحت وطأة التعذيب.
  • عمار بن ياسر: بعد أن رأى استشهاد والديه، اشتد عليه العذاب حتى لم يعد يحتمل، فنطق بكلمة الكفر مكرهاً، وذكر آلهتهم بخير. فلما تركوه، أسرع إلى النبي ﷺ وهو يبكي ندماً وأسفاً. فسأله النبي ﷺ عن قلبه: “كيف تجد قلبك؟” قال: “مطمئناً بالإيمان”. فطمأنه النبي ﷺ وقال له: “إن عادوا فعد”، ونزل فيه قول الله تعالى: “…إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ…” (سورة النحل، الآية 106). لقد أسست هذه الحادثة لمبدأ فقهي عظيم، وهو رخصة النطق بالكفر تحت الإكراه الشديد، مما يظهر رحمة هذا الدين وواقعيته.

كانت هذه المحنة الشديدة بمثابة عملية فرز وتمحيص إلهية. لم يكن الهدف منها كسر إرادة المؤمنين، بل كان صقل إيمانهم وتطهير صفوفهم، ليبقى فقط من كان إيمانه أرسخ من الجبال، ومن كانت الآخرة عنده أغلى من الدنيا وما فيها. هؤلاء الذين تخرجوا من مدرسة البلاء هم الذين بنوا صرح الأمة فيما بعد.


القسم الخامس: الهجرة إلى الحبشة: بحث عن ملاذ آمن

مع تصاعد وتيرة الاضطهاد الوحشي في مكة، وبلوغه حداً لا يطاق، خاصة مع المستضعفين، أذن النبي ﷺ لأصحابه بالخروج من هذا الجحيم، في أول هجرة في تاريخ الإسلام. لم تكن هذه الهجرة هروباً، بل كانت حركة استراتيجية تهدف إلى حماية أرواح المؤمنين ودينهم، وفتح أفق جديد للدعوة.

5.1 القرار الاستراتيجي: “إن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد”

بناءً على ما عرفه النبي ﷺ من عدل وإنصاف، وجه أصحابه إلى الحبشة (أثيوبيا حالياً)، وقال لهم كلمته الشهيرة: “لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد”. كان هذا الاختيار دقيقاً ومدروساً، فالنجاشي، ملك الحبشة، كان رجلاً نصرانياً على دين سماوي، مما يجعله أقرب إلى فهم رسالة التوحيد من مشركي العرب. كان الهدف من الهجرة إذن:

  1. إيجاد ملاذ آمن للمضطهدين للحفاظ على أنفسهم.
  2. الفرار بالدين من الفتن، وإيجاد بيئة يمكن فيها عبادة الله بأمان.
  3. فتح نافذة جديدة للدعوة خارج حدود مكة، ونقل قضية الإسلام إلى الساحة الدولية آنذاك.

5.2 الهجرة الأولى والثانية

تمت الهجرة إلى الحبشة على مرحلتين:

  • الهجرة الأولى (رجب، السنة الخامسة للبعثة): كانت مجموعة صغيرة تتكون من أحد عشر رجلاً وأربع نساء، تسللوا ليلاً خفية عن أعين قريش. كان من بينهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله ﷺ. لم يدم بقاؤهم طويلاً، حيث وصلتهم إشاعة كاذبة بأن أهل مكة قد أسلموا، فعادوا، ليكتشفوا أن الوضع ازداد سوءاً.
  • الهجرة الثانية: بعد عودة المهاجرين الأوائل وتجدد الاضطهاد، أذن النبي ﷺ بهجرة ثانية أكبر وأوسع. فهاجر وفد كبير يضم ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة، وكان على رأسهم ابن عم النبي ﷺ، جعفر بن أبي طالب.

5.3 المواجهة الدبلوماسية في بلاط النجاشي

لم يرق لقريش أن يفلت المسلمون من قبضتهم ويجدوا مأمناً في الحبشة. فقرروا ملاحقتهم دبلوماسياً. أرسلوا وفداً رفيع المستوى يضم اثنين من أدهى رجالهم، عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، محملين بالهدايا الثمينة للنجاشي وبطارقته. كانت خطتهم تقوم على رشوة حاشية الملك أولاً لضمان تأييدهم، ثم تقديم طلبهم للنجاشي بتسليم “الغلمان السفهاء” الذين فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك، بل ابتدعوا ديناً جديداً.

5.4 خطبة جعفر بن أبي طالب التاريخية

لكن النجاشي، وفاءً لسمعته كحاكم عادل، رفض تسليم اللاجئين دون سماع حجتهم. فاستدعى المسلمين إلى مجلسه، وتقدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ليكون المتحدث باسمهم. ألقى جعفر خطبة بليغة ومؤثرة، تعتبر من روائع الدبلوماسية الإسلامية. لم يبدأ بالدفاع، بل بدأ بعرض مقارن بين حالهم في الجاهلية وما أصبحوا عليه في الإسلام، فقال: “أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء…”.

عندما طلب منه النجاشي أن يقرأ عليه شيئاً مما جاء به نبيهم، اختار جعفر بذكاء وفطنة أن يقرأ عليه صدر سورة مريم. فلما سمع النجاشي وبطارقته الآيات التي تصف قصة زكريا ويحيى وميلاد عيسى عليه السلام من مريم العذراء، بكوا حتى اخضلت لحاهم، وبللوا كتبهم. فقال النجاشي: “إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة”، ثم التفت إلى وفد قريش وقال: “انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً”.

5.5 الاختبار الأخير والانتصار الحاسم

لم يستسلم عمرو بن العاص، وفي اليوم التالي عاد إلى النجاشي بمكيدة جديدة، فقال له: “أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً”. استدعى النجاشي المسلمين مرة أخرى وسألهم عن عقيدتهم في المسيح. وهنا، ورغم خطورة الموقف، لم يتردد جعفر في إعلان عقيدة التوحيد الصافية، فقال: “نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول”.

فضرب النجاشي بيده الأرض وأخذ منها عوداً، وقال: “والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود”. ثم أمن المسلمين في بلاده، ورد هدايا قريش إليهم، فعاد وفدهم خائباً مهزوماً.

لقد كانت هذه الحادثة أول انتصار دبلوماسي للإسلام، وأول حوار أديان ناجح، أثبت فيه المسلمون قدرتهم على عرض قضيتهم بحكمة وقوة حجة، وأظهروا أن رسالتهم ليست تهديداً للقيم النبيلة، بل هي امتداد وتصديق لما جاء به الأنبياء من قبلهم.


القسم السادس: الحصار في الشعب: المقاطعة الشاملة

بعد فشلهم الذريع في استرداد مهاجري الحبشة، ومع دخول شخصيات قوية في الإسلام مثل حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، أدركت قريش أن أساليب الاضطهاد الفردي لم تعد تجدي نفعاً. فلجأت إلى أقسى وأشمل سلاح لديها: المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية الكاملة، في محاولة لتركيع النبي ﷺ وعشيرته واستئصال شأفة الدعوة.

6.1 الصحيفة الظالمة: بنود الحصار

اجتمع زعماء قريش في دار الندوة، وتعاهدوا على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب الذين وقفوا مع النبي ﷺ، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين (بدافع الحمية القبلية)، باستثناء أبي لهب الذي انحاز إلى قريش. كتبوا بنود هذه المقاطعة في صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة ليعطوها قدسية وإلزاماً. كانت بنودها صارمة وقاطعة:

  1. ألا يزوجوهم ولا يتزوجوا منهم.
  2. ألا يبيعوهم شيئاً ولا يشتروا منهم شيئاً.
  3. ألا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم.
  4. ألا يقبلوا منهم صلحاً أبداً حتى يسلموا إليهم رسول الله ﷺ للقتل.

بدأ هذا الحصار الجائر في شهر المحرم من السنة السابعة للبعثة، واستمر ثلاث سنوات متواصلة.

6.2 ثلاث سنوات من المعاناة والصمود

اضطر بنو هاشم وبنو المطلب إلى الانحياز إلى شعب (وادٍ) يملكه أبو طالب، يُعرف بـ “شعب أبي طالب”. عاشوا فيه في عزلة تامة عن العالم. كانت سنوات الحصار قاسية ومريرة، حيث انقطعت عنهم المؤن والطعام، وبلغ بهم الجهد مبلغه. اضطروا إلى أكل أوراق الشجر والجلود اليابسة لسد رمقهم. وكان يُسمع من وراء الشعب بكاء الأطفال والنساء من شدة الجوع.

في خضم هذه المعاناة، تجلت أروع صور التضحية والصمود. أنفقت السيدة خديجة رضي الله عنها كل مالها في سبيل إطعام المحاصرين وتخفيف معاناتهم. كما أظهر غير المسلمين من بني هاشم، وعلى رأسهم أبو طالب، ولاءً منقطع النظير لابن أخيهم، وفضلوا تحمل الجوع والحصار على أن يسلموه. لقد كان الحصار اختباراً قاسياً، ليس فقط للإيمان، بل أيضاً للروابط القبلية والأخلاق الإنسانية.

6.3 نهاية الحصار: تدخل إلهي وضمير إنساني

انتهى الحصار بحدث جمع بين المعجزة الإلهية والشهامة الإنسانية.

  • المعجزة الإلهية: أطلع الله نبيه ﷺ وحياً بأن حشرة الأرضة قد أكلت الصحيفة الظالمة المعلقة في الكعبة، ولم تترك منها إلا ما كان من ذكر الله، مثل “باسمك اللهم”. أخبر النبي ﷺ عمه أبا طالب بذلك.
  • الصحوة الإنسانية: في نفس الوقت، بدأت ضمائر بعض رجال قريش من ذوي المروءة والرحم تستيقظ. لم يرق لهم أن يروا أقاربهم يهلكون جوعاً. تحرك رجل منهم هو هشام بن عمرو، وبدأ يتواصل سراً مع رجال آخرين من ذوي النخوة مثل زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي، وشكلوا تحالفاً لإنهاء هذه المقاطعة اللاإنسانية.

وفي اليوم الموعود، خرج أبو طالب إلى قريش في المسجد الحرام، وطرح عليهم تحدياً: إن ابن أخي أخبرني أن الأرضة قد أكلت صحيفتكم إلا ذكر الله، فإن كان صادقاً فانتهوا عن قطيعتنا، وإن كان كاذباً دفعته إليكم. قالوا: قد أنصفت. وفي تلك الأثناء، قام زهير بن أبي أمية ومن معه وأعلنوا أمام الملأ براءتهم من الصحيفة الظالمة. فلما أحضروا الصحيفة وفتحوها، وجدوها كما وصف النبي ﷺ تماماً، قد أكلتها الأرضة وبقي فيها اسم الله. وبهذا، تم نقض الصحيفة ورفع الحصار، وخرج بنو هاشم من شعبهم بعد ثلاث سنوات من العذاب.

إن قصة الحصار ونهايته تبرز سنة إلهية واضحة، وهي أن إرادة الله تتحقق من خلال الأسباب، فقد جمع سبحانه بين المعجزة الخارقة (الأرضة) والفعل الإنساني (تحدي أبي طالب وتحرك أصحاب المروءة) لإنهاء هذا الظلم، ليعلم المؤمنون أن التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب والسعي في الأرض.


القسم السابع: عام الحزن ورحلة الأمل

ما كاد النبي ﷺ وأصحابه يخرجون من محنة الحصار، حتى واجهتهم محن أشد إيلاماً على المستوى الشخصي، حيث فقد النبي ﷺ في عام واحد أكبر سندين له في حياته، مما فتح الباب على مصراعيه لمرحلة جديدة من العداء السافر، ودفع النبي ﷺ للبحث عن أفق جديد للدعوة خارج مكة.

7.1 فاجعتان متتاليتان: وفاة أبي طالب وخديجة

في السنة العاشرة من البعثة، وبعد أشهر قليلة من الخروج من الشعب، توفي عمه أبو طالب، ثم لحقت به زوجته الوفية خديجة رضي الله عنها.

  • وفاة أبي طالب: كان أبو طالب الحصن المنيع الذي يحمي النبي ﷺ من بطش قريش. ورغم حبه الشديد لابن أخيه ودفاعه المستميت عنه، إلا أنه مات على ملة عبد المطلب، رافضاً نطق الشهادتين على فراش الموت رغم محاولات النبي ﷺ الحثيثة، وهو ما أحزن النبي ﷺ حزناً شديداً ونزل فيه قوله تعالى: “…إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ…” (سورة القصص، الآية 56). بوفاته، فقد النبي ﷺ الحماية القبلية والغطاء السياسي الذي كان يستند إليه.
  • وفاة خديجة: وبعد وفاة أبي طالب بأشهر قليلة، توفيت السيدة خديجة رضي الله عنها، شريكة حياته، وأول من آمن به، ومصدر سكنه ومواساته. كانت له الزوجة المحبة، والمستشارة الحكيمة، والسند المالي والعاطفي. لقد كانت كما وصفها ﷺ: “آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس”.

كانت هاتان المصيبتان المتتاليتان سبباً في تسمية هذا العام في كتب السيرة بـ “عام الحزن”. وإن كان بعض المحققين يشيرون إلى أن هذه التسمية لم ترد في الأحاديث الصحيحة المسندة، إلا أنها تعبر بدقة عن حجم الألم الذي ألمّ بالنبي ﷺ في تلك الفترة.

7.2 تصاعد الأذى بعد فقدان الحماية

بموت أبي طالب، شعرت قريش أنها قد تحررت من آخر قيد كان يمنعها من النيل من النبي ﷺ مباشرة. فتجرأوا عليه وكاشفوه بالعداوة والأذى بشكل لم يسبق له مثيل. وبلغ بهم السفه أن أحد سفهاء قريش اعترضه في الطريق ونثر التراب على رأسه الشريف. فدخل ﷺ بيته والتراب على رأسه، فقامت إحدى بناته تغسله عنه وهي تبكي، فطمأنها قائلاً: “لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك”. لقد كان هذا الموقف دليلاً على أن مكة لم تعد مكاناً آمناً للدعوة.

7.3 الرحلة إلى الطائف: بحث عن نصرة جديدة

بعد أن يئس من قومه في مكة، قرر النبي ﷺ أن يفتح جبهة جديدة للدعوة، فتوجه إلى مدينة الطائف، التي كانت تعتبر القوة الثانية في الحجاز بعد مكة. سار إليها ماشياً على قدميه، يرافقه فقط مولاه زيد بن حارثة، قاطعاً مسافة طويلة على أمل أن يجد في أهلها، قبيلة ثقيف، من يستجيب لدعوته أو على الأقل يؤويه وينصره.

لكن استقبالهم كان أسوأ من استقبال أهل مكة. فقد عمد إلى سادتها الثلاثة، وهم إخوة، وعرض عليهم الإسلام، فكان ردهم بمنتهى السخرية والوقاحة. قال أحدهم: “أمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك!” وقال الثاني: “أما وجد الله أحداً غيرك!” وقال الثالث: “والله لا أكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً من الله لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك”.

لم يكتفوا بالرفض، بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم، فتبعوه يسبونه ويصيحون به، واصطفوا له صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة، حتى أدموا عقبيه وقدميه الشريفتين، وكان زيد بن حارثة يحاول أن يقيه بنفسه حتى أصيب في رأسه.

7.4 دعاء المستضعفين وقصة عدّاس

لجأ النبي ﷺ، وهو في أقصى درجات الألم الجسدي والنفسي، إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهما من أعدائه. وهناك، رفع يديه إلى السماء ودعا بدعائه المشهور الذي يفيض بالانكسار والعبودية لله: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس…”. (مع الإشارة إلى أن سند هذا الدعاء بلفظه الكامل فيه ضعف عند بعض المحدثين).

ورقّ قلب ابني ربيعة لمنظره، فأرسلا إليه مع غلام لهما نصراني اسمه عدّاس قطفاً من عنب. فلما مد النبي ﷺ يده ليأكل، قال: “بسم الله”. فاستغرب عدّاس وقال: “إن هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد”. فسأله النبي ﷺ: “ومن أي البلاد أنت؟” قال: “أنا نصراني من أهل نينوى”. فقال النبي ﷺ: “من قرية الرجل الصالح يونس بن متى”. فدهش عدّاس وقال: “وما يدريك ما يونس بن متى؟” فقال ﷺ: “ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي”. فلم يتمالك عدّاس نفسه، فأكب على رسول الله ﷺ يقبل رأسه ويديه وقدميه، إيماناً وتصديقاً.

7.5 رحمة للعالمين: عرض ملك الجبال

في طريق عودته من الطائف، وهو مهموم حزين، أظله جبريل عليه السلام ومعه ملك الجبال، الذي استأذنه قائلاً: “يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (جبلان يحيطان بمكة) لفعلت”. ولكن النبي ﷺ، الذي بُعث رحمة للعالمين، ورغم كل ما لاقاه من أذى، رفض هذا العرض الانتقامي، وقال قولته التي تجسد عمق رحمته وأمله: “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً”.

لقد كان “عام الحزن” وما تلاه من أحداث في الطائف بمثابة تجريد للنبي ﷺ من كل سند أرضي، ليتوجه بكليته إلى السند السماوي وحده. وكانت بارقة الأمل في إسلام عدّاس، ورفضه إهلاك أهل الطائف، إشارة إلى أن بذور الدعوة ستجد تربة خصبة في أماكن غير متوقعة، وأن أفق الرسالة أوسع من حدود مكة والطائف.


القسم الثامن: الإسراء والمعراج: التكريم الإلهي

بعد أن بلغت الشدة ذروتها في عام الحزن وأحداث الطائف، وبعد أن ضاقت الأرض بما رحبت، جاء الفرج من السماء. كانت رحلة الإسراء والمعراج تكريماً إلهياً فريداً، ومواساة ربانية لنبيه ﷺ، ومعجزة خارقة أعادت تعريف مفاهيم الزمان والمكان، وربطت رسالة الإسلام بالرسالات السماوية السابقة، وأسست للركن الثاني من أركان الإسلام.

8.1 السياق والتوقيت: جبر الخاطر بعد الشدة

وقعت هذه المعجزة العظيمة في فترة حرجة من الدعوة، بعد أن فقد النبي ﷺ نصيره الداخلي (خديجة) وحاميه الخارجي (أبو طالب)، وقوبل بالصد والإيذاء في الطائف. فكانت الرحلة بمثابة رسالة دعم وتثبيت من الله لنبيه، مفادها: إن كان أهل الأرض قد صدوك، فإن أبواب السماء مفتوحة لك، وإن كان الكبراء قد أهملوك، فإن رب الكون يستقبلك ويكرمك.

اختلف العلماء في تحديد تاريخها الدقيق، والقول المشهور أنها وقعت في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، قبل الهجرة بحوالي سنة، ولكن هناك أقوال أخرى ترجح وقوعها في ربيع الأول أو غيره من الشهور.

8.2 الإسراء: الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

الإسراء هو الرحلة الأرضية الليلية. بدأت بأن أتى جبريل عليه السلام إلى النبي ﷺ وهو في مكة، وشق صدره الشريف وغسل قلبه بماء زمزم، ثم ملأه حكمة وإيماناً، تهيئة له لهذه الرحلة الروحية والجسدية العظيمة. ثم أُتي بدابة تسمى “البراق”، وهي دابة بيضاء أسرع من البرق، تضع حافرها عند منتهى طرفها.

ركب النبي ﷺ البراق بصحبة جبريل، فانطلقا في رحلة خارقة من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس. وهناك، في المسجد الأقصى، جمع الله له الأنبياء جميعاً من لدن آدم إلى عيسى عليهم السلام، فصلى بهم النبي ﷺ إماماً. كان هذا المشهد إعلاناً سماوياً عن انتقال إمامة البشرية إلى النبي الخاتم، وعن وحدة الرسالات الإلهية التي جاء الإسلام ليكملها ويختمها.

8.3 المعراج: العروج إلى السماوات العلى

المعراج هو الرحلة السماوية. من بيت المقدس، عُرج بالنبي ﷺ بصحبة جبريل إلى السماوات السبع، وفي كل سماء كان يستفتح جبريل فيُفتح له، وكان يلتقي بأحد الأنبياء ويرحبون به :

  • السماء الأولى: التقى بـ آدم عليه السلام.
  • السماء الثانية: التقى بـ يحيى وعيسى عليهما السلام.
  • السماء الثالثة: التقى بـ يوسف عليه السلام.
  • السماء الرابعة: التقى بـ إدريس عليه السلام.
  • السماء الخامسة: التقى بـ هارون عليه السلام.
  • السماء السادسة: التقى بـ موسى عليه السلام.
  • السماء السابعة: التقى بـ إبراهيم عليه السلام، مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.

ثم تجاوز النبي ﷺ هذا كله حتى وصل إلى “سدرة المنتهى”، وهي شجرة عظيمة ينتهي إليها علم الخلائق، وهناك رأى من آيات ربه الكبرى ما رأى.

8.4 فرض الصلاة: الهدية العظمى

في ذلك المقام الأعلى، وبدون واسطة جبريل، ناجى النبي ﷺ ربه، وهناك فرض الله عليه وعلى أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة. وفي طريق عودته، مر بموسى عليه السلام في السماء السادسة، فنصحه بأن يرجع إلى ربه ويسأله التخفيف، لأن أمته لن تطيق ذلك، بناءً على خبرته مع بني إسرائيل. فما زال النبي ﷺ يراجع ربه، وفي كل مرة يخفف الله عنه، حتى أصبحت خمس صلوات في اليوم والليلة، بأجر خمسين صلاة.

إن فرض الصلاة في هذا المقام السامي، مباشرة من الله إلى رسوله، يدل على مكانتها الفريدة والعظيمة في الإسلام. فهي ليست مجرد عبادة، بل هي “معراج المؤمن” اليومي، وصلته المباشرة بخالقه.

8.5 العودة إلى مكة وردود الفعل: امتحان الإيمان

عاد النبي ﷺ إلى مكة في نفس الليلة. وفي الصباح، أخبر قومه بما حدث، فكانت ردود الفعل كاشفة لمعادن الناس:

  • تكذيب قريش: استقبل المشركون الخبر باستهزاء وسخرية شديدة، واعتبروها فرصة ذهبية للتشكيك في عقله ودعوته. وطالبوه بتحدٍّ عملي: أن يصف لهم بيت المقدس، وهم يعلمون أنه لم يزره من قبل. فجلّى الله له بيت المقدس أمامه، فجعل يصفه لهم وصفاً دقيقاً باباً باباً وموضعاً موضعاً، فبُهتوا ولم يستطيعوا أن ينكروا حرفاً واحداً.
  • تصديق أبي بكر: هرع بعض المشركين إلى أبي بكر الصديق، وقالوا له: “هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس!”. فكان جواب أبي بكر جواب اليقين الذي لا يتزعزع: “لئن كان قال، لقد صدق”. قالوا: “أتصدقه في أنه ذهب إلى الشام في ليلة واحدة ورجع قبل أن يصبح؟” قال: “نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة”. ومنذ ذلك اليوم، سُمي أبو بكر بـ “الصديق”.

كانت حادثة الإسراء والمعراج اختباراً حقيقياً للإيمان، فمن كان إيمانه مبنياً على اليقين بالله وقدرته، ازداد يقيناً، ومن كان في قلبه مرض، ارتد على عقبيه.


القسم التاسع: بيعتا العقبة: فجر يثرب

بعد أن أغلقت مكة أبوابها في وجه الدعوة، وبعد تجربة الطائف القاسية، بدأ النبي ﷺ يغير استراتيجيته في الدعوة. فبدلاً من التركيز على أهل مكة فقط، بدأ يعرض نفسه على القبائل العربية التي تفد إلى مكة في موسم الحج، باحثاً عن أرض جديدة تحتضن رسالته وتكون منطلقاً لها. وكانت الاستجابة تأتي من حيث لم يتوقع الكثيرون، من مدينة في الشمال تسمى يثرب.

9.1 بيعة العقبة الأولى (السنة 12 للبعثة): بذور الإيمان

في موسم الحج من السنة الثانية عشرة للبعثة، التقى النبي ﷺ بوفد من اثني عشر رجلاً من يثرب (المدينة المنورة)، عشرة منهم من قبيلة الخزرج واثنان من الأوس. كان أهل يثرب، بسبب مجاورتهم لليهود، لديهم معرفة بالأنبياء والوحي، وكانوا يسمعون من اليهود أن نبياً سيبعث قريباً. فلما سمعوا دعوة النبي ﷺ، قال بعضهم لبعض: “والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه”. فآمنوا به وصدقوه.

التقوا بالنبي ﷺ سراً عند “العقبة” (مكان قرب منى)، وبايعوه بيعة عُرفت في التاريخ بـ “بيعة العقبة الأولى” أو “بيعة النساء”، لأن بنودها لم تتضمن القتال، بل ركزت على أسس الإيمان والأخلاق. كانت بنودها:

  • ألا يشركوا بالله شيئاً.
  • ألا يسرقوا.
  • ألا يزنوا.
  • ألا يقتلوا أولادهم.
  • ألا يأتوا ببهتان يفترونه.
  • ألا يعصوه في معروف.

9.2 مصعب بن عمير: أول سفير في الإسلام

عندما عاد الوفد إلى يثرب، طلبوا من النبي ﷺ أن يرسل معهم من يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين. فاختار النبي ﷺ لهذه المهمة العظيمة الشاب مصعب بن عمير رضي الله عنه، ليكون أول سفير في الإسلام. كان مصعب فتى من أنعم شباب قريش وأكثرهم ثراءً، لكنه ضحى بكل ذلك في سبيل عقيدته.

نزل مصعب في يثرب ضيفاً على أسعد بن زرارة، وبدأ دعوته بحكمة وبصيرة. وبفضل شخصيته الجذابة، وعلمه بالقرآن، وقدرته الفائقة على الحوار والإقناع، حقق نجاحاً باهراً. لم يمر عام واحد إلا وقد انتشر الإسلام في يثرب انتشاراً واسعاً، وأسلم على يديه كبار زعمائها، مثل أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وبإسلامهما أسلمت قبيلتهما (بنو عبد الأشهل) بأكملها في يوم واحد. لقد مهد مصعب بن عمير الطريق وجعل يثرب قاعدة آمنة ومهيأة لاستقبال النبي ﷺ والمهاجرين.

9.3 بيعة العقبة الثانية (السنة 13 للبعثة): ميثاق النصرة والهجرة

في موسم الحج التالي، في السنة الثالثة عشرة للبعثة، قدم إلى مكة وفد كبير من مسلمي يثرب، يضم ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين، على رأسهم معلمهم مصعب بن عمير. كان هدفهم أكبر من مجرد أداء الحج، لقد جاؤوا ليعقدوا ميثاقاً تاريخياً مع رسول الله ﷺ.

تم اللقاء سراً في نفس المكان، عند العقبة، في جوف الليل. وحضر مع النبي ﷺ عمه العباس بن عبد المطلب، الذي كان لا يزال على دين قومه، لكنه أراد أن يتوثق لابن أخيه. هذه البيعة، التي عُرفت بـ “بيعة العقبة الثانية” أو “بيعة الحرب”، كانت نقطة تحول حاسمة، فهي لم تكن مجرد بيعة على الإيمان، بل كانت عقداً سياسياً وعسكرياً. كانت بنودها:

  1. السمع والطاعة في المنشط والمكره.
  2. النفقة في العسر واليسر.
  3. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
  4. أن يقوموا في الله لا تأخذهم في الله لومة لائم.
  5. أن ينصروه ويمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم.

لقد كانت هذه البيعة بمثابة إعلان تأسيس دولة الإسلام في يثرب، وتعهداً من الأنصار بالدفاع عن النبي ﷺ ورسالته بكل ما يملكون.

9.4 الإذن بالهجرة: بداية النهاية للعهد المكي

بعد أن تمت هذه البيعة المباركة، وتأكد النبي ﷺ من وجود قاعدة آمنة وأنصار مستعدين للتضحية، أعطى الإذن لأصحابه المضطهدين في مكة بالهجرة إلى يثرب، قائلاً لهم: “إن الله عز وجل قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها”. فبدأ المسلمون يهاجرون أفراداً وجماعات، تاركين وراءهم ديارهم وأموالهم وأهليهم، فراراً بدينهم، وتأسيسًا لمجتمع جديد. كانت هذه الهجرات بداية النهاية للعهد المكي، وتمهيداً لهجرة النبي ﷺ نفسه، التي ستفتح صفحة جديدة ومجيدة في تاريخ الإسلام.


خاتمة: إرث العهد المكي

تمثل السنوات الثلاث عشرة التي قضاها النبي ﷺ في مكة بعد البعثة مرحلة التأسيس والبناء الروحي للأمة الإسلامية. لقد كانت هذه الفترة بوتقة صهرت فيها الشدائد أقوى الرجال، ورسخت فيها العقيدة في القلوب رسوخ الجبال. إن إرث العهد المكي يتجلى في دروس عظيمة؛ الصبر الجميل في مواجهة أعتى صور الأذى، والتوكل المطلق على الله عند انقطاع كل الأسباب الأرضية، والحكمة البالغة في التخطيط والتدرج في الدعوة. لقد نجحت هذه المرحلة في تكوين نواة صلبة من المؤمنين الصادقين، الذين تعلموا في مدرسة النبوة معنى التضحية والفداء، وأصبحوا مؤهلين لحمل الأمانة وبناء حضارة جديدة في المدينة المنورة. لقد انتهى عهد الاستضعاف، وبدأ فجر جديد يلوح في الأفق، فجر الدولة والتمكين.


المصادر:

  • Islamweb.net (شبكة إسلام ويب)
  • Mawdoo3.com (موقع موضوع)
  • Aljazeera.net (شبكة الجزيرة)
  • Wikipedia.org (ويكيبيديا العربية)
  • Rasoulallah.net (موقع نصرة رسول الله)
  • Alukah.net (شبكة الألوكة)
  • Dar-alifta.org (دار الإفتاء)
  • Sabq.org (صحيفة سبق الإلكترونية)
  • Withprophet.com
  • Youm7.com (اليوم السابع)
  • Midad.com (مداد)
  • Suwaidan.com
  • Islamonline.net (إسلام أون لاين)
  • Alkhaleej.ae (جريدة الخليج)

أسئلة شائعة:

متى بدأت نبوة محمد ﷺ وما هي أول آيات نزلت عليه؟

بدأت نبوته في سن الأربعين في غار حراء، وأول ما نزل عليه هو الآيات الخمس الأولى من سورة العلق: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ”.

كم استمرت الدعوة السرية وأين كان مركزها؟

استمرت الدعوة السرية ثلاث سنوات، وكان مركزها “دار الأرقم بن أبي الأرقم” عند جبل الصفا في مكة.

من هي أول شهيدة في الإسلام؟

أول شهيدة في الإسلام هي السيدة سمية بنت خياط، والدة الصحابي عمار بن ياسر، قتلها أبو جهل بطعنة حربة.

لماذا هاجر المسلمون إلى الحبشة؟

هاجروا بسبب شدة الاضطهاد الذي تعرضوا له في مكة، ولأن النبي ﷺ أخبرهم أن ملك الحبشة (النجاشي) ملك عادل لا يُظلم عنده أحد.

ما هو “عام الحزن”؟

هو العام العاشر من البعثة، وسُمي بذلك لوفاة السيدة خديجة رضي الله عنها وعم النبي أبي طالب في نفس العام، مما كان له أثر نفسي كبير وفقدان للحماية.

ماذا حدث للنبي ﷺ في رحلته إلى الطائف؟

رفض أهل الطائف دعوته وطردوه، وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم فرجموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين.

ما هي رحلة الإسراء والمعراج باختصار؟

هي رحلة معجزة حدثت ليلًا، حيث انتقل النبي ﷺ من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس (الإسراء)، ثم صعد إلى السماوات السبع (المعراج)، وهناك فُرضت الصلاة.

من هو أول سفير في الإسلام؟

أول سفير في الإسلام هو الصحابي مصعب بن عمير رضي الله عنه، أرسله النبي ﷺ إلى يثرب (المدينة) بعد بيعة العقبة الأولى ليعلم أهلها الإسلام.

ما الفرق بين بيعة العقبة الأولى والثانية؟

البيعة الأولى كانت بيعة على الالتزام بتعاليم الإسلام الأخلاقية (بيعة النساء)، بينما الثانية كانت بيعة على النصرة والحماية والقتال (بيعة الحرب)، وهي التي مهدت للهجرة.

كم سنة بقي النبي ﷺ يدعو في مكة قبل الهجرة؟

بقي النبي ﷺ في مكة بعد البعثة لمدة ثلاثة عشر عامًا، قضى منها ثلاث سنوات في الدعوة السرية وعشر سنوات في الدعوة الجهرية.

شاركها.

أكتب في تقاطعات الفكر الإنساني، من علم الاجتماع والفلسفة إلى الأديان والتاريخ. أهدف من خلال مقالاتي إلى طرح أسئلة عميقة، وتحليل الظواهر الثقافية والدينية برؤية نقدية ومعاصرة.

إعلان
Subscribe
Notify of
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
تعليقات داخلية
عرض كل التعليقات
إعلان
wpDiscuz
0
0
حابين نسمع رأيك، اترك تعليقك.x
()
x
Exit mobile version