في وقت يتجه فيه العالم نحو التكنولوجيا والرقمنة، يختار البعض العودة إلى الجذور، إلى الحرف اليدوية التي تشهد انقراضًا بطيئًا. روبرتو بلترامي هو أحد هؤلاء القلائل الذين رفضوا التيار، وقرروا أن يُحيي فنًا نادرًا: نفخ الزجاج في مورانو. فكيف ترك دراسة الفيزياء ليصبح أصغر مايسترو في جزيرة عريقة بصناعة الزجاج؟ وكيف يحافظ على إرث يعود إلى قرون وسط العولمة والتقليد الرخيص؟
البداية من بوسطن.. شرارة الشغف الأولى
لم يكن بلترامي يومًا طفلًا نشأ وسط ورش الزجاج، بل وُلد في بلدة بريشيا الإيطالية، بعيدًا عن جزيرة مورانو. المفارقة أنّ أول لقاء له مع صناعة الزجاج التقليدية كان في مدينة بوسطن الأمريكية عام 2011، حين كان طالبًا يدرس الفيزياء، وشاهد معرضًا لأعمال الفنان الشهير “ديل تشيهولي”. هذا المعرض لم يكن مجرد تجربة بصرية، بل نقطة تحوّل.
عاد إلى إيطاليا في عطلته الصيفية والتحق بدورة قصيرة في نفخ الزجاج في مورانو، لتتحول إلى تدريب مهني امتد لعام، وتلاه قرار جريء: ترك الجامعة وملاحقة الشغف.
التحديات أمام حرفة عمرها قرون
مورانو، التي كانت تسكنها أكثر من 30 ألف نسمة في أوجها، لم يبق فيها اليوم سوى حوالي 4 آلاف، وعدد ورش الزجاج لا يتجاوز 105. تواجه الصناعة تحديات كبيرة، أبرزها:
- نقص في اهتمام الشباب بالحرف اليدوية المتعبة.
- معدات قديمة ومهملة.
- المنافسة مع المنتجات المقلدة الرخيصة.
- تحفظ الورش القديمة على “أسرار المهنة”.
قال بلترامي: “الكثيرون لم يرغبوا في تعليم الوافدين الجدد خشية سرقة وظائفهم. كان من الصعب اختراق هذا العالم المغلق”.
تأسيس Wave Murano Glass: الشباب والتجديد
في عام 2017، بعمر 25 عامًا، قرر بلترامي قلب الطاولة، فأسس ورشته الخاصة “Wave Murano Glass”. بدأ بعدد صغير من الشباب الحرفيين، واليوم يضم فريقه نحو 20 شخصًا، معظمهم في العشرينيات والثلاثينيات.
ما يميز الورشة:
- استخدام برمجيات الذكاء الاصطناعي لتنظيم العمل.
- أفران موفرة للطاقة وصديقة للبيئة.
- إدماج أحدث تقنيات التصميم في صناعة القطع الزجاجية.
- دروس وجولات تفاعلية للجمهور والسياح.
بلترامي لا يصنع مجرد زجاج، بل يصنع تجربة كاملة تربط بين الماضي والمستقبل.
فن نفخ الزجاج: جهد جماعي ودقة متناهية
تبدأ العملية بصهر الرمل ورماد الصودا والحجر الجيري في حرارة تصل إلى 1600 درجة مئوية. يُنفخ الزجاج من خلال أنبوب مجوف ثم يُشكّل يدويًا أثناء تأرجحه وهو لا يزال مرنًا.
بلترامي يصف هذا الفن قائلًا: “إنها رياضة جماعية تتطلب تنسيقًا دقيقًا بين عدة أشخاص، كلٌّ منهم يؤدي دورًا مهمًا في تشكيل القطعة”.
هذا التناغم لا يمكن تعلمه من الكتب، بل من التجربة والمثابرة، تمامًا كما فعل بلترامي.
نظرة إلى المستقبل: هل يمكن إنقاذ التراث؟
رغم التحديات، يرى بلترامي أملًا في جيل جديد من الشباب المتحمس. نسبة بسيطة من دخل الورشة تأتي من الدروس التي يقدمها لزوار الجزيرة، لكنه يعتبرها استثمارًا في نشر الحرفة بدلًا من الاكتفاء بالإنتاج التجاري.
ويأمل أن تلعب التقنيات الحديثة دورًا في إنعاش صناعة الزجاج، لا في تدميرها.
الخاتمة
قصة روبرتو بلترامي ليست فقط عن الزجاج، بل عن الإيمان بالشغف والعودة إلى الجذور، عن شاب اختار السير عكس التيار ليحمي إرثًا ثقافيًا يتوارى خلف الحداثة. من مورانو، يُعيد بلترامي تعريف معنى الحرفة، ويثبت أنّ الجمع بين الإبداع والتكنولوجيا يمكن أن يصنع المعجزات.
ما هو فن نفخ الزجاج؟
فن يدوي يتطلب صهر مواد طبيعية مثل الرمل ثم نفخ الزجاج عبر أنبوب مجوف لتشكيله يدويًا.
من هو أصغر مايسترو زجاج في مورانو؟
روبرتو بلترامي، شاب إيطالي أسّس ورشة “Wave Murano Glass” ويقود جيلًا جديدًا من الحرفيين.
كيف تحافظ مورانو على صناعة الزجاج؟
من خلال ورش صغيرة، دمج التكنولوجيا الحديثة، وتقديم الدروس والجولات للسياح والمهتمين.
ما الذي يهدد حرفة نفخ الزجاج في مورانو؟
نقص الشباب، المعدات القديمة، والمنتجات المقلدة المنتشرة في السوق.
المصدر : arabic.cnn.com



