في زمننا هذا تُعيد فيه الخوارزميات رسم خريطة سوق العمل، وتخبرنا تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي أن 39 % من مهاراتنا ستتغيّر بحلول 2030، لكن أقلّ من 5 % من الوظائف يمكن أتمتتها بالكامل. هنا تبرز مهن تعجز التكنولوجيا عن تعويضها، لأنها تمسّ جوهر الإنسانية: العاطفة، الحكم الأخلاقي، وردّ الفعل اللحظي. تعرفوا إلى خمس وظائف أثبتت صمودها – بل وأهميتها – أمام زحف الآلات.
1. مهنة الطبيب: حارس الحياة الذي تعجز التكنولوجيا عن تعويضه
التصوير بالرنين المغناطيسي يمنح الأطباء أدقّ الصور، ولكن من يربط الصورة بالحياة هو الطبيب نفسه. تقارير التوظيف الحديثة تعدّ الرعاية الصحية في صدارة الوظائف «المحصّنة» ضد الأتمتة. فقرار شقّ صدر مريض لإنقاذ قلبه أو تغيير بروتوكول علاج سرطان في اللحظة الحاسمة يتطلّب خبرة إنسانية، تعاطفًا، ومسؤولية أخلاقية لا يحاكيها ذكاء اصطناعي.
🔸 قصة واقعية:
في عام 2020، اعتمد مستشفى في المملكة المتحدة على خوارزمية ذكاء اصطناعي لتحليل صور الأشعة وتشخيص سرطان الثدي. في إحدى الحالات، صنّف النظام الحالة بأنها “غير حرجة”، لكن الطبيب الإشعاعي لاحظ تغيرًا طفيفًا في نسيج الثدي يُحتمل أن يكون خبيثًا. بالفعل، تبين لاحقًا أنه ورم في مراحله الأولى، وتم إنقاذ المريضة بفضل التدخل البشري المبكر.
2. المعلم: مهندس العقول الذي يسبق المنصّات الرقمية
صحيح أن أي طالب اليوم يستطيع الوصول إلى آلاف الفيديوهات التعليمية، لكن تحويل المعلومة إلى مهارة يبقى مهمة المعلم. دراسة لماكينزي تُظهر أن التعليم من أقلّ القطاعات قابليةً للأتمتة (إمكان الأتمتة 27 % فقط). فالمعلم يزرع النقد البنّاء، يوجّه الأسئلة المناسبة، ويلاحظ إشارات الطالب غير اللفظية – أمور يستحيل على برنامج واحد إتقانها جميعًا.
🔸 إحصائية داعمة:
وفقًا لمنظمة OECD، فإن 94% من الطلاب أقرّوا بأن “التشجيع العاطفي” من المعلم البشري كان السبب الأساسي في استمرارهم بالتعلّم رغم صعوبات المنهج .
إعلان
3. رجل الأمن: خط الدفاع البشري أمام اللا متوقع
الكاميرات الذكية تكتشف الوجوه وتقرأ اللوحات فورًا، ومع ذلك تُقدّر مخاطر أتمتة وظيفة «شرطي الدورية» بـ 6 % فقط. والسبب بسيط: المواقف الانفعالية في الشارع تتطلّب شجاعة لحظية، تقديرًا أخلاقيًّا، وقدرة على التفاوض الفوري مع أشخاص غاضبين أو خائفين. حتى الروبوت المزود بسلاح غير فتاك يحتاج إلى إنسان يقرر متى يضغط الزّر.
🔸 قصة واقعية:
في عام 2023، تعرضت مدينة سان فرانسيسكو لمحاولة سرقة متجر إلكترونيات كبير. الكاميرات رصدت التحركات، ولكن من تدخّل فعليًّا كان رجل الأمن “آرون بلاك” الذي واجه اللصين بشجاعة غيرت مسار الحادث ومنعت إصابة المدنيين، وتم منحه وسام الشجاعة. لاحقًا، صرّح المحققون بأن “الذكاء الاصطناعي كشف التحرك، لكن التدخل الحاسم كان بفضل القرار البشري في اللحظة الصعبة.”
4. عمال الصيانة والبنية التحتية: حماة استمرارية الحياة اليومية
شبكة مياه معطّلة قد تُوقف مدينة كاملة. ماكينزي تؤكد أن الوظائف في بيئات غير متوقعة – مثل السباكين وعمال الكهرباء – ستشهد أقل نسب الأتمتة بحلول 2030. فالأعطال تختلف باختلاف المكان والوقت، وتتطلب حلولًا إبداعية وتدخّلًا جسديًّا لا تؤدّيه الأذرع الروبوتية بمفردها.
5. القضاة ورجال القانون: ميزان العدالة الذي لا يقبل البرمجة الصماء
منصة القضاء تعالج صراعات معقّدة تجمع القانون والأخلاق والبعد الإنساني. كبار القضاة يؤكدون أن التعاطف والحكمة الإنسانية لا بديل لهما، محذّرين من الاعتماد الكامل على الخوارزميات. فالقرارات القضائية لا تُقاس بمؤشرات رقمية فحسب، بل بعواقبها الاجتماعية ووقعها النفسي على الأطراف المتنازعة.
🔸 إحصائية داعمة:
تقرير مجلس أوروبا عام 2022 أكد أن “أي نظام ذكاء اصطناعي في القضاء يجب أن يبقى خاضعًا لمراجعة بشرية تامة، لأن العدالة لا تدار بالبيانات وحدها، بل بالفهم العميق للظروف والسياق الأخلاقي.”
لماذا تعجز التكنولوجيا عن تعويض هذه المهن؟
التشخيص الطبي، التربية، حفظ النظام، إصلاح البنى التحتية، وإصدار الأحكام القانونية جميعها تتطلب تفاعلًا بشريًا عميقًا يقوم على التعاطف، الفطنة الأخلاقية، وردّ الفعل الإبداعي. لهذا السبب، حتى أكثر الأنظمة تطورًا تبقى أدوات مساعدة وليست بدائل نهائية للبشر – على الأقل في المستقبل المنظور.
تؤكد هذه القائمة أن هذه المهن ستظلّ ركيزة الحضارة، لأن الإنسان – بعقله وروحه – هو خيط الأمان الأخير بين الحياة واللاجودة، وبين النظام والفوضى. لذلك، وبينما نحتفي بالابتكار، يجب أن نستثمر أكثر في المهارات الإنسانية التي تضمن بقاء هذه الوظائف نابضة بالحياة.
المصدر:
مجلة سيدتي، تقارير ماكينزي، المنتدى الاقتصادي العالمي