إعلان

السؤال الذي يطاردنا جميعاً

في لحظات السكون العميق، وتحت سماء الليل المرصعة بالنجوم، يطرق عقولنا ذلك السؤال الأبدي: من أين أتى كل هذا؟ والأهم من ذلك، لماذا أنا هنا؟ هذا ليس مجرد فضول فكري، بل هو نداء الروح للبحث عن جذورها ومقصدها. إن قصة بداية الخلق ليست مجرد حكاية تُروى، بل هي الخريطة التي ترسم مسار وجودنا من الأزل إلى هذه اللحظة التي تقرأ فيها هذه الكلمات.

في هذه المقالة، سنغوص معاً في رحلة تتجاوز حدود الزمان والمكان، لنكتشف الإجابات التي قدمها الوحي. سنبدأ من الصمت الذي سبق الخلق، ونشهد أولى لحظات التكوين، ونتابع قصة أبينا آدم، ونفهم الحكمة من إرسال الأنبياء، لنصل في النهاية إلى اكتشاف مكانتك الحقيقية في هذه الملحمة الكونية العظيمة.


الصمت الذي سبق الزمن… أين كان الله؟

قبل الانفجارات العظيمة والمجرات اللامتناهية، قبل النور والظلام، وقبل أن يكون للزمن معنى، كان الله. يجيبنا النبي محمد ﷺ عن هذا السؤال المحيّر ببساطة عميقة: “كان الله ولا شيء معه”.

لنتوقف هنا قليلاً. هذه الجملة ليست مجرد إجابة، بل هي مفتاح لتحرير العقل. فالله، سبحانه، لم يكن بحاجة إلى عرش ليجلس عليه، ولا إلى ملائكة لتعبده، ولا إلى كون ليُظهر عظمته. هو “الغني” بذاته، وجوده مطلق وكامل، لا يعتمد على أي شيء آخر.

وجهة نظري: هذا المفهوم يغير علاقتنا بالله جذرياً. فعبادتنا ليست لسد “حاجة” إلهية، بل هي تعبير عن امتناننا وحبنا وشوقنا للاتصال بمصدر الجمال والكمال كله. نحن من نحتاج إليه، وهو يتفضل علينا بقبول هذا الاتصال. إنه يخلق كل هذا الكون الهائل، ليس لحاجة، بل كفعل من أفعال الجود والكرم، ليعرّفنا على أسمائه وصفاته: “الخالق”، “البديع”، “الحكيم”.

إعلان

أول أمر في الوجود… “اكتب!”

من رحم العدم، بدأت قصة بداية الخلق بأمر إلهي. يختلف العلماء في تحديد أول المخلوقات، لكن إحدى الروايات العميقة تذكر أن الله خلق القلم أولاً، وقال له: “اكتب”. فسأل القلم في رهبة: “وما أكتب؟” فأتاه الجواب المهيب: “اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة”.

وهنا، بدأ القلم يخط في اللوح المحفوظ كل تفصيل دقيق في هذا الكون. من مسار كل مجرة، إلى عدد حبات المطر التي ستسقط، إلى كل نفس ستتنفسه، وكل خيار ستتخذه.

لكن مهلاً، هل هذا يعني أننا مجرد دمى في مسرحية مكتوبة سلفاً؟ هذا هو الفهم السطحي للقدر. الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. فالله بعلمه المطلق الذي يحيط بالماضي والحاضر والمستقبل، كتب ما سوف نختاره نحن بإرادتنا الحرة.

مثال عملي: تخيل أن معلماً خبيراً يدرّس طلابه لعام كامل. من خلال متابعته لجهدهم واهتمامهم، يستطيع أن يتنبأ بنسبة دقة عالية من منهم سينجح ومن سيرسب. هل “كتابته” لهذه التوقعات هي التي أجبرت الطالب الكسول على الرسوب؟ بالطبع لا. بل إن علمه وخبرته كشفت له النتيجة التي سيصل إليها الطالب باختياره. ولله المثل الأعلى، فعلمه مطلق وكامل.


فجر الكون… خلق السماوات والأرض

بعد كتابة المقادير بخمسين ألف سنة، تجلت القدرة الإلهية في خلق السماوات والأرض. يخبرنا القرآن أنهما كانتا “رتقاً” (كتلة واحدة متصلة) “ففتقناهما” (فصلناهما). هذه الإشارة القرآنية التي نزلت قبل 1400 عام، تجد اليوم صدى مدهشاً في نظرية الانفجار العظيم العلمية، التي تفترض أن الكون نشأ من نقطة واحدة شديدة الكثافة.

لكن لماذا خُلقت في ستة أيام (أو ست مراحل زمنية) والله قادر على خلقها بكلمة “كن”؟ هنا يكمن درس بليغ لنا:

  • الإتقان يحتاج إلى وقت: الله يعلمنا أن الأعمال العظيمة تحتاج إلى صبر وتأنٍ وتدرج.
  • مثال عملي: إذا كنت تسعى لهدف كبير في حياتك، سواء كان مشروعاً تجارياً أو اكتساب علم أو بناء أسرة، فلا تستعجل النتائج. استلهم من خالقك أن تضع خطة، وتأخذ بالأسباب، وتتحلى بالصبر، فلكل شيء أوانه.

لقد هُيئت هذه الأرض بكل ما فيها من تنوع مذهل – من ألوان الزهور، إلى تنوع الأطعمة، إلى تعاقب الفصول – ليس فقط لتلبية احتياجاتنا الأساسية، بل لتكون متعة لأرواحنا وأعيننا، تكريماً لهذا الضيف القادم: الإنسان.


التحفة الإلهية وقصة التمرد الأول

والآن، حان وقت وصول المخلوق الذي سُخر له الكثير. أمر الله الملائكة أن تأتي بقبضة من تراب الأرض، من كل بقاعها: من سهلها وجبلها، من أبيضها وأسودها. عُجن هذا الطين، وتُرك فترة، ثم نفخ الله فيه من روحه.

هنا تكمن كرامتك! أنت لست مجرد جسد من طين، بل فيك “نفخة” إلهية. هذا هو سر تميزك، وسر تكليفك، ومصدر قوتك الداخلية.

بعدها، حدث المشهد المهيب الذي حدد مسار الخير والشر إلى الأبد:

  1. تعليم الأسماء: علّم الله آدم أسماء كل شيء، وهو علم لم تُعطه الملائكة، ليُظهر فضله بالعلم لا بالجنس أو الأصل.
  2. الأمر بالسجود: أُمرت الملائكة بالسجود لآدم سجود تكريم واحتفاء، لا سجود عبادة.
  3. التمرد الأول: سجد الملائكة كلهم، إلا إبليس. لم تكن معصيته مجرد رفض لأمر، بل كانت مدفوعة بأخطر أمراض القلب: الكبر. قال: “أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين”. لقد رأى نفسه أفضل، فاستحق الطرد واللعنة، وبدأت من تلك اللحظة عداوته الأبدية للإنسان.

قصة آدم وحواء في الجنة ليست قصة عن الخطيئة بقدر ما هي قصة عن الفطرة الإنسانية، والنسيان، والأمل، والرحمة. لقد أخطآ، مثلما نخطئ جميعاً، لكنهما لم يكابرا. بل اعترفا فوراً وقالا: “ربنا ظلمنا أنفسنا”. فكانت توبتهما هي الدرس الأول للبشرية: باب الله مفتوح دائماً، والعودة إليه ممكنة مهما كان الخطأ.


بداية الرحلة على الأرض… من قابيل إلى خاتم المرسلين

هبوط آدم وحواء إلى الأرض لم يكن عقوبة بقدر ما كان بداية لمهمتهما الحقيقية: الخلافة. هذه الأرض هي ميدان الاختبار والعمل والنمو.

  • أول مأساة: سرعان ما ظهرت أمراض النفس البشرية في قصة قابيل وهابيل. لم تكن مجرد غيرة على الزواج كما يُشاع، بل كان السبب الأعمق هو الحسد على قبول الله لقربان هابيل. فبدل أن يُصلح قابيل علاقته مع الله، اختار أن يدمر أخاه، ليرتكب أول جريمة قتل في التاريخ.
  • منارات الهداية: طبيعة الإنسان هي النسيان، ومع مرور الأجيال، بدأت البشرية تضل الطريق. لكن رحمة الله لم تتركهم. فأرسل سلسلة مباركة من الأنبياء والرسل، كل منهم كان بمثابة منارة هداية في زمنه. من نوح الذي دعا قومه 950 سنة بصبر لا مثيل له، إلى إبراهيم الذي وقف وحيداً كـ “أمة” في وجه الشرك، ومن نسله جاء معظم الأنبياء، وصولاً إلى موسى وعيسى، عليهم جميعاً السلام.
  • الرسالة الخاتمة: كل هؤلاء الأنبياء العظام كانوا يمهدون للرسالة النهائية، التي ستكون شاملة وكاملة ومحفوظة لكل زمان ومكان. فجاء النبي محمد ﷺ، ليكون خاتم الأنبياء، وتكون رسالته (الإسلام) هي التعبير الأكمل عن دين الله الواحد الذي دعا إليه كل الأنبياء من قبله: التوحيد.

أنت لست هامشاً… أنت في صلب القصة

الآن بعد أن قطعنا هذه الرحلة، عد بذاكرتك إلى ذلك السؤال الأول: “لماذا أنا هنا؟”. الجواب أصبح الآن أكثر وضوحاً. أنت لست مجرد رقم بين المليارات، ولست نتاج صدفة عشوائية في كون فسيح.

إن قصة بداية الخلق بأكملها تشير إليك. أنت نتيجة إرادة إلهية محبة، كائن مكرم فُضّل بالعقل والإرادة ونُفخ فيه من روح الله. أنت تحمل أمانة “الخلافة في الأرض”. وجودك له معنى، وحياتك لها هدف.

مهمتك هي أن تعكس صفات خالقك في الأرض: الرحمة، العدل، الإبداع، والإحسان. أن تعمرها بالخير، وتصلح فيها، وتكون منارة هداية لمن حولك. لقد فهمت الآن من أين أتيت، والقرار بيدك لتحدد إلى أين ستذهب.


المصدر:

المعلومات الأساسية مستلهمة وموسعة من محتوى حلقة “أين كان الله تعالى قبل الخلائق؟” من برنامج “دين وطين”.

يمكنك مشاهدة الحلقة كاملة من هنا:


1. أين كان الله قبل خلق الكون؟

حسب الحديث النبوي، “كان الله ولا شيء معه”. هذا يعني أن وجوده مطلق وأزلي، وهو غني عن كل مخلوقاته وغير محتاج إلى مكان أو زمان.

2. هل الإنسان مجبر على أفعاله لأنها مكتوبة في القدر؟

لا. الله كتب في اللوح المحفوظ ما سيفعله الإنسان باختياره الحر، وذلك لعلمه المطلق والمسبق، ولم يكتبها ليجبره عليها. فالإنسان مخير ومسؤول عن أفعاله.

3. ما الحكمة من خلق آدم من تراب متنوع من الأرض؟

الحكمة من ذلك تظهر في التنوع البشري. فكما أن تراب الأرض مختلف في لونه وطبيعته (لين، خشن، أبيض، أسود)، كذلك جاء البشر مختلفين في طباعهم وأشكالهم وألوانهم، وهذا من بديع صنع الله.

4. لماذا طُرد إبليس من رحمة الله بينما غُفر لآدم خطأه؟

طُرد إبليس لأنه عصى واستكبر وأصر على معصيته، ونسب الخطأ إلى الله (“فبما أغويتني”). أما آدم، فقد أخطأ ونسي، لكنه ندم واعترف بذنبه وطلب المغفرة فوراً (“ربنا ظلمنا أنفسنا”)، فتاب الله عليه. الفرق الجوهري هو بين الكبر والتوبة.

5. ما هو الهدف من إرسال العديد من الأنبياء والرسل؟

مع مرور الزمن، كانت البشرية تنسى أو تحرّف الرسالة الإلهية الأساسية (التوحيد). فكان الله يرسل الأنبياء لتجديد العهد، وتصحيح المفاهيم، وإرشاد الناس إلى الطريق المستقيم، كل نبي لقومه وفي زمنه، حتى خُتمت الرسالات برسالة الإسلام الشاملة للجميع.

شاركها.

أكتب في تقاطعات الفكر الإنساني، من علم الاجتماع والفلسفة إلى الأديان والتاريخ. أهدف من خلال مقالاتي إلى طرح أسئلة عميقة، وتحليل الظواهر الثقافية والدينية برؤية نقدية ومعاصرة.

إعلان
Subscribe
Notify of
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
تعليقات داخلية
عرض كل التعليقات
إعلان
wpDiscuz
0
0
حابين نسمع رأيك، اترك تعليقك.x
()
x
Exit mobile version