أكيد مرّ عليك يومٌ وجدت فيه حدثاً تافهاً يتصدر منصات التواصل. وفي الغالب، لم تعرف عنه إلا عن طريق شخص يحذر منه، أليس كذلك؟ ويا للأسف، لقد ساهم “المُحذّر” في نشره أكثر من الداعمين له.
من ناحية أخرى، لا بد أنك وجدت نفسك تخوض بحماس في جدال عقيم لا فائدة منه، فقط حتى لا تبدو ضعيفاً أمام الطرف الآخر. كلنا مررنا بذلك. لكن، هل المواجهة دائماً هي الحل؟
الإجابة هي لا. المواجهة ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة ترتبط قيمتها بنتيجتها. إن أدت إلى خير أو أزاحت باطلاً فهي واجبة، أما إذا تحولت إلى عبث يضخم الباطل، فالأمر يختلف تماماً. هنا يأتي دور فن الإعراض، السلاح المنسي في معارك اليوم.
الإعراض في القرآن: ليس ضعفاً بل حكمة ومنهج
قد تبدو فكرة التجاهل سلبية للوهلة الأولى، لكن القرآن الكريم يضعها كاستراتيجية حكيمة في مواضع محددة. وبالتالي، هي طاعة قبل أن تكون تكتيكاً.
يقول الله تعالى في سورة الأعراف: “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ”. الجاهل هنا ليس من يفتقر للعلم، بل السفيه الذي لا يُرجى من جداله نفع. النقاش معه استنزاف للطاقة بلا طائل.
ولكن، ماذا لو كان الأمر يتعلق بالسخرية من الدين؟ الغيرة على المقدسات تدفعنا للرد، وهذا طبيعي. مع ذلك، يأتي التوجيه الإلهي أكثر دقة في سورة الأنعام: “وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ”.
هنا، فن الإعراض لا يعني الاستهانة بالحق، بل هو حماية له من أن يُطرح في ساحة لا تُقدّر قيمته. الحق عزيز، ولا يجب أن يوضع في مقام لا يليق به.
عندما يصبح التجاهل طرداً من ساحة الاعتبار
يصل الأمر إلى ذروته في التعامل مع أصناف معينة من الناس، كالمنافقين الذين وصفهم الله بقوله: “فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ” (سورة التوبة). كلمة “رجس” تشير إلى نجاسة معنوية لا يطهرها حوار ولا يصقلها نقاش.
لذلك، الإعراض عنهم ليس مجرد تجاهل، بل هو طرد لهم من ساحة الاعتبار وحرمانهم من شرف الرد.
خذ قضية شريفة وواضحة مثل مناصرة المستضعفين في غزة كمثال. حين تُسحب هذه القضية النبيلة إلى سجالات جانبية مع أناس تافهين، فإنها تفقد أثرها وتضعف في نفوس الناس. العاقل لا يُقحم قضاياه الشريفة في معارك عبثية، ولا يجعل النور يقف في طابور النقاش أمام الظلام.
كيف تحول حكمة التجاهل إلى سلاح فعّال؟
بعض الأشخاص ينتشون بالإقبال عليهم وينكمشون بالإعراض عنهم. إنهم يقتاتون على الاهتمام. مواجهة هذا النوع تمنحهم المنبر الذي يبحثون عنه، وبالتالي، أنت تساهم في تضخيم باطلهم. هنا، يصبح فن الإعراض مرفوضاً شرعاً ومنطقاً لأن نتيجته عكسية تماماً.
صدقني، حكمة التجاهل في هذا السياق هي سلاح فتاك يخمد الباطل، فضلاً عن كونها طاعة لأمر الله.
علاوة على ذلك، الانشغال بهؤلاء الساخرين يحرم طلاب الحقيقة الحقيقيين من الوصول إلى الخير. الأرض مليئة بالمتعطشين للمعرفة الذين يحتاجون لمن يدلهم، لكن أين الدليل؟ إنه مشغول في جدال لا ينتهي، أو غارق في الترويج للتافهين تحت مبرر التحذير منهم.
لقد عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة عبس لأنه انشغل بدعوة من لا يُرجى إسلامه وأعرض عمن جاء يطلب الهداية بصدق. فكيف بنا نحن نترك من يُرجى صلاحه ونغرق في معارك وهمية؟
“لن يضروك شيئاً”: وعد إلهي لمن يتقن فن الإعراض
قد يراودك القلق من أن يُقال عنك ضعيف أو هارب من المواجهة. هذا الهاجس هو أكبر فخ قد تقع فيه. لكن، هناك وعد إلهي يطمئنك: “وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا” (سورة المائدة).
كلمة “شيئاً” هنا تشمل كل أنواع الضرر، حتى على مستوى المشاعر. بشرط أن يكون إعراضك حقيقياً وكاملاً: لا متابعة لردودهم، لا التفات لأقوالهم، ولا دخول في دوائرهم.
الخلاصة: ديننا لا يأمرنا بالدخول في كل حوار لمجرد استعراض عضلاتنا المعرفية أو إثبات غيرتنا. المسألة في النهاية هي صناعة فارق حقيقي في إيصال الحق وإخماد الباطل. وكما أن للمواجهة ميادينها، فإن للإعراض حكمة وفقه. وكم من فارق عظيم صُنع بتطبيق فن الإعراض في الوقت المناسب.