تخيل عالمًا يُسجن فيه عقلك داخل جسد لا يستجيب. عالم تكون فيه الأفكار والمشاعر والكلمات حية ونابضة بالحياة في ذهنك، لكن لا سبيل لإخراجها. هذا هو الواقع المرير الذي يعيشه ملايين الأشخاص حول العالم المصابين بالشلل الحاد أو “متلازمة المنحبس”، حيث يصبح التواصل مع أحبائهم مجرد حلم بعيد المنال. لكن اليوم، يقف العلم على أعتاب تغيير هذا الواقع، بفضل إنجاز تكنولوجي مذهل قد يعيد الصوت لمن فقدوه.
من الخيال العلمي إلى الحقيقة: فك شفرة الأفكار وتحويلها إلى كلام
لطالما كانت فكرة قراءة الأفكار مادة دسمة لأفلام الخيال العلمي، لكنها اليوم تقترب من أن تصبح حقيقة ملموسة. فقد نجح فريق من الباحثين المتميزين من جامعة ستانفورد ومؤسسات أمريكية أخرى في تطوير غرسة دماغية لترجمة الأفكار مباشرة إلى كلام مسموع أو نص مكتوب. هذا النظام، الذي يُعد قفزة نوعية في مجال واجهات الدماغ الحاسوبية (BCI)، لا يعتمد على محاولة المريض تحريك عضلاته. بل يذهب مباشرة إلى المصدر: “الكلام الداخلي” أو الأفكار التي تتشكل في الدماغ قبل أن تتحول إلى أوامر حركية.
على عكس التقنيات السابقة التي كانت تترجم محاولات الحركة إلى أوامر بسيطة على شاشة الحاسوب، فإن هذا الابتكار يفك شفرة النشاط العصبي المرتبط باللغة نفسها. ونتيجة لذلك، يمكن للنظام الجديد أن يمنح المستخدمين القدرة على “التحدث” بسرعة وسلاسة أكبر بكثير من أي وقت مضى.
كيف يعمل هذا النظام الثوري؟
يكمن سر هذا التقدم في غرسة دقيقة تُزرع في منطقة القشرة الحركية بالدماغ، وهي المنطقة المسؤولة عن تنسيق الحركات، بما في ذلك حركات الشفاه واللسان والحنجرة اللازمة للكلام.
- رصد الإشارات العصبية: تقوم الغرسة برصد الإشارات الكهربائية الدقيقة التي تصدرها الخلايا العصبية عندما “يفكر” الشخص في التحدث.
- التعرف على الوحدات الصوتية: باستخدام خوارزميات تعلم آلي متطورة، يتم تدريب النظام على التعرف على الأنماط العصبية المرتبطة بأصغر وحدات الكلام، والمعروفة باسم “الفونيمات” (مثل صوت “ب” أو “آ”).
- إعادة بناء الكلمات: يقوم النظام بعد ذلك بتجميع هذه الفونيمات بالترتيب الصحيح لتشكيل كلمات وجمل كاملة.
- الاستعانة بالذكاء الاصطناعي: لزيادة الدقة، تم دمج النظام مع نموذج لغوي ضخم (قاعدة بيانات لغوية) يمكنه التنبؤ بالكلمة التالية في الجملة، تمامًا مثل ميزة الإكمال التلقائي في هاتفك. على سبيل المثال، إذا كانت الكلمة الأولى “أشرب”، فإن النموذج يتوقع أن الكلمة التالية قد تكون “ماء” أو “قهوة”، مما يقلل من هامش الخطأ بشكل كبير.
This brain implant can decode a person’s internal chatterhttps://t.co/aJdYXUC526
إعلان— nature (@Nature) August 16, 2025
في الاختبارات الأولية التي أجريت على متطوعين يعانون من الشلل، حققت واجهة الدماغ الحاسوبية للكلام دقة وصلت إلى 74% في ترجمة الأفكار إلى كلام، مع قدرة النظام على فهم مفردات تضم أكثر من 125,000 كلمة. علاوة على ذلك، أظهرت النتائج أن التفكير في الكلام يتطلب جهدًا أقل من محاولة التحدث فعليًا، مما يجعل هذه التقنية أكثر راحة وفعالية للمستخدمين.
أبعد من مجرد استعادة الصوت
إن هذا الإنجاز لا يقتصر على كونه أداة تواصل؛ بل هو نافذة أمل لاستعادة جزء أساسي من الهوية الإنسانية. القدرة على التعبير عن الأفكار والنكات ومشاركة المشاعر بطلاقة هي جوهر علاقاتنا الاجتماعية. بالتالي، فإن هذه التقنية تعد بإنهاء عزلة مؤلمة ومنح المرضى استقلالية وكرامة كانوا يفتقدونها.
ومع ذلك، لا يزال الطريق طويلاً. يقر الباحثون، وعلى رأسهم الدكتور فرانك ويليت بأن الدقة الحالية ليست مثالية وتحتاج إلى تحسين. لكنهم متفائلون بأن الإصدارات المستقبلية من الغرسات. والتي ستغطي مساحة أكبر من الدماغ وتستخدم خوارزميات أكثر قوة، ستصل إلى مستويات دقة تقارب المحادثة الطبيعية خلال السنوات القليلة القادمة. في المقابل، تثير هذه التقنية أسئلة أخلاقية مهمة حول خصوصية الأفكار. مما يستدعي وضع ضوابط صارمة لضمان استخدامها بما يحفظ كرامة الإنسان.
في الختام، تقف البشرية على أعتاب مستقبل مشرق لواجهات الدماغ الحاسوبية. هذه الـ غرسة دماغية لترجمة الأفكار ليست مجرد اختراع، بل هي وعد بعالم يستطيع فيه الجميع التعبير عن أنفسهم بحرية، بغض النظر عن قيودهم الجسدية.
المصدر:
البحث المنشور في مجلة Cell العلمية.
أسئلة شائعة
1. كيف تختلف هذه الغرسة الدماغية عن التقنيات السابقة؟
تختلف بشكل أساسي في أنها تترجم “الكلام الداخلي” أو الأفكار مباشرة، بدلاً من الاعتماد على إشارات الدماغ التي تحاول تحريك العضلات. هذا يجعلها أسرع وأكثر طبيعية في الاستخدام.
2. ما هي نسبة دقة النظام الحالية؟
ي الاختبارات الأولية، وصل النظام إلى دقة قصوى تبلغ 74%، مع قدرته على التعرف على مفردات واسعة تضم أكثر من 125 ألف كلمة بفضل نموذج لغوي مدعوم بالذكاء الاصطناعي.
3. من هم المستفيدون المحتملون من هذه التقنية؟
المستفيدون الرئيسيون هم الأشخاص الذين فقدوا القدرة على الكلام بسبب حالات مثل الشلل الحاد، السكتات الدماغية، أو أمراض التصلب الجانبي الضموري (ALS).
4. هل هذه التقنية متاحة للجميع الآن؟
لا، لا تزال التقنية في مراحلها البحثية والتجريبية. يعمل العلماء على تحسين دقتها وتطويرها قبل أن تصبح متاحة على نطاق واسع في المستقبل.
5. ما هي التحديات الأخلاقية المرتبطة بقراءة الأفكار؟
تثير هذه التقنية مخاوف بشأن خصوصية الأفكار وإمكانية الوصول غير المصرح به إلى أعمق أفكار الشخص. لذلك، من الضروري تطوير تشريعات وضوابط أخلاقية صارمة لتنظيم استخدامها.