القدس في قلب الصراع
لطالما كانت القدس، المدينة التي تتجه إليها قلوب المليارات، نقطة التقاء الأديان وساحة للصراعات. قداستها لدى المسلمين، حيث هي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومكانتها العميقة لدى المسيحيين كمهد لديانتهم، جعلت من السيطرة عليها حلمًا وهدفًا استراتيجيًا عبر العصور. قبل وصول صلاح الدين، كانت المدينة ترزح تحت وطأة الحكم الصليبي منذ عام 1099، وهو تاريخ دموي شهد واحدة من أبشع المجازر في تاريخها، حيث أُبيد سكانها المسلمون واليهود في مذبحة لم تفرق بين رجل وامرأة وطفل. في ذلك الوقت، كان العالم الإسلامي ممزقًا، غارقًا في خلافاته الداخلية، مما سمح للغزاة بترسيخ وجودهم لقرابة تسعة عقود.
وسط هذا التيه، بزغ نجم صلاح الدين الأيوبي، القائد الكردي الذي لم يكن مجرد قائد عسكري فذ، بل رجل دولة ورث رؤية سلفه نور الدين زنكي، ونذر حياته لهدفين متلازمين: توحيد المسلمين تحت راية واحدة، ومن ثم تحرير بيت المقدس. هذه المقالة لا تستعرض فقط كيف نجح صلاح الدين في تحقيق نصر عسكري ساحق في صلاح الدين وتحرير القدس، بل الأهم من ذلك، كيف قدم للعالم نموذجًا أخلاقيًا خالدًا في التعامل مع الأعداء، وهو نموذج يتناقض بشكل صارخ مع وحشية الماضي الصليبي، ويقدم درسًا بليغًا في الإنسانية يُفتقد بشدة اليوم، ولعل في قصته إلهامًا بأن يأتينا من يعيد للأمة مجدها ويسترجع لنا قدسنا الأسيرة.
الفصل الأول: الطريق إلى القدس.. توحيد الجبهة الإسلامية
لم يكن الطريق إلى القدس معبدًا بالورود، بل كان محفوفًا بالانقسامات السياسية التي كادت أن تودي بحلم التحرير. أدرك صلاح الدين بحكمته أن مواجهة عدو خارجي منظم تتطلب أولاً وقبل كل شيء ترتيب البيت الداخلي. لذلك، انطلق في رحلة شاقة وطويلة لتوحيد القوى الإسلامية المتناحرة، فبدأ بتثبيت حكمه في مصر، ثم اتجه شمالًا نحو الشام، حيث واجه أمراء مسلمين كانوا يرون في طموحاته تهديدًا لنفوذهم أكثر من رؤيتهم للخطر الصليبي.
عبر مزيج من الدبلوماسية الماهرة والعمل العسكري الحاسم عند الضرورة، نجح صلاح الدين خلال سنوات في ضم دمشق، وحلب، والموصل تحت رايته، مُشكلًا بذلك جبهة إسلامية موحدة تمتد من النيل إلى الفرات. نتيجة لذلك، لم يعد الصليبيون يواجهون إمارات متفرقة، بل قوة إسلامية كبرى يقودها رجل واحد بهدف واحد: القدس. كان هذا التوحيد هو حجر الزاوية الذي لا غنى عنه، والخطوة التمهيدية الأساسية التي جعلت النصر ممكنًا.
معركة حطين (1187): الضربة القاصمة
في صيف عام 1187، وبعد أن قام رينالد دي شاتيون (أرناط)، أمير الكرك الصليبي، بخرق الهدنة ومهاجمة قافلة للمسلمين، وجد صلاح الدين المبرر الذي كان ينتظره. حشد جيشه الأكبر، وسار لملاقاة القوات الصليبية التي تجمعت لمواجهته. وهنا، تجلت عبقريته العسكرية بأبهى صورها.
بدلاً من الاشتباك المباشر، استدرج صلاح الدين الجيش الصليبي الضخم إلى منطقة قاحلة بالقرب من طبريا، عند قرون حطين. لقد اختار المكان والتوقيت ببراعة فائقة؛ حيث كان يومًا حارًا، والجيش الصليبي يعاني من العطش الشديد بعد مسيرة مرهقة، بينما كانت بحيرة طبريا أمامهم ولكن جيش صلاح الدين يسيطر عليها. علاوة على ذلك، أمر صلاح الدين بإضرام النار في الأعشاب الجافة المحيطة بالجيش الصليبي، فزاد الدخان من معاناتهم. وفي صباح الرابع من يوليو عام 1187، كان الجيش الصليبي محاصرًا، منهكًا، ومحبطًا. كانت الهزيمة حتمية وساحقة، حيث تم أسر معظم قادته، بما في ذلك ملك مملكة القدس غي دي لوزينيان، وإبادة جيشه بالكامل تقريبًا. لقد كانت معركة حطين الضربة القاصمة التي حطمت العمود الفقري للقوة العسكرية الصليبية، وجعلت الطريق نحو القدس مفتوحًا على مصراعيه.
الفصل الثاني: حصار القدس.. استراتيجية القوة والحكمة
بعد حطين، سقطت المدن الصليبية الساحلية تباعًا في يد صلاح الدين كأحجار الدومينو. وفي 20 سبتمبر 1187، وصل الجيش الإسلامي أخيرًا إلى أسوار القدس. لم تكن المدينة حصنًا منيعًا كما كانت في السابق؛ فقد تم استدعاء معظم فرسانها للدفاع عنها في حطين ولم يعودوا. كان المدافعون قلة، بقيادة باليان دي إبلين، أحد النبلاء القلائل الذين نجوا من المعركة.
فرض صلاح الدين حصارًا محكمًا على المدينة. استخدم جيشه تكتيكات الحصار الكلاسيكية، حيث تم نصب المجانيق الضخمة التي بدأت بقصف الأسوار بلا هوادة. وفي الوقت نفسه، ركز المهندسون العسكريون هجماتهم على نقاط الضعف في السور الشمالي، بالقرب من باب العمود. استمر القصف والهجمات لأيام، ومع كل يوم كان اليأس يتسلل إلى قلوب المدافعين.
في البداية، رفض صلاح الدين أي شكل من أشكال التسليم المشروط. لقد أقسم أن يأخذ المدينة بالقوة، تمامًا كما أُخذت منهم بالقوة، لينتقم للمجزرة التي وقعت عام 1099. لكن باليان دي إبلين، في محاولة يائسة لإنقاذ المدينة، خرج للتفاوض وهدد صلاح الدين بأنه إذا لم يتم قبول استسلامهم بشروط، فإنهم سيقتلون الأسرى المسلمين لديهم، ويهدمون قبة الصخرة والمسجد الأقصى، ثم يقاتلون حتى الموت، محولين المدينة إلى كومة من الخراب. هنا، أظهر صلاح الدين حكمته وبعد نظره. فبدلاً من التمسك بالانتقام، استمع إلى مستشاريه وقرر قبول التسليم السلمي حقنًا للدماء وحفاظًا على قدسية المدينة. لقد انتصرت الحكمة على الغضب، والرحمة على الرغبة في الثأر.
الفصل الثالث: دخول القدس.. انتصار الرحمة والتسامح
في الثاني من أكتوبر عام 1187، والذي وافق ذكرى الإسراء والمعراج في 27 رجب، فُتحت أبواب القدس. كانت شروط التسليم التي وضعها صلاح الدين مثالًا فريدًا في تاريخ الحروب. سمح لجميع السكان اللاتين (الصليبيين) بمغادرة المدينة بسلام خلال 40 يومًا بعد دفع فدية رمزية: عشرة دنانير للرجل، وخمسة للمرأة، ودينار واحد للطفل.
وهنا يكمن جوهر المقال، في المقارنة الحاسمة بين حدثين يفصل بينهما 88 عامًا:
- عام 1099: دخل الصليبيون المدينة وأعملوا السيف في رقاب سكانها. يروي المؤرخون أن الدماء كانت تصل إلى ركب الخيول في الشوارع، وأنهم قتلوا آلاف المسلمين واليهود الذين لجأوا إلى المسجد الأقصى وكنيسهم. لقد كانت مجزرة بكل معنى الكلمة.
- عام 1187: دخل صلاح الدين المدينة، ليس كمنتقم، بل كفاتح رحيم. لم تُرق قطرة دم واحدة. وبدلاً من ذلك، شهدت المدينة أفعالًا إنسانية لا تُنسى.
عندما عجز آلاف الفقراء عن دفع الفدية، أظهر صلاح الدين كرمًا لا مثيل له. قام شقيقه العادل بطلب إعفاء ألف منهم وأعتقهم، وكذلك فعل باليان دي إبلين. ثم أعلن صلاح الدين نفسه أنه سيعفو عن جميع الشيوخ والفقراء الذين لم يتمكنوا من الدفع، وأمر حراسه بتأمين خروجهم بأمان من المدينة. تقول بعض الروايات إن صلاح الدين دفع الفدية للعديد من النساء الأرامل واليتامى من ماله الخاص.
علاوة على ذلك، تم تأمين الكنائس، وسُمح للمسيحيين الشرقيين بالبقاء في المدينة وممارسة شعائرهم الدينية بحرية كاملة، حيث اعتبرهم صلاح الدين من رعايا دولته. لقد كان انتصار صلاح الدين وتحرير القدس ليس مجرد استعادة للأرض، بل كان استعادة للقيم الإنسانية والأخلاقية.
إرث صلاح الدين الخالد
إن استعادة القدس لم تكن نهاية القصة، بل كانت بداية فصل جديد. لقد أدى هذا الحدث إلى إشعال شرارة الحملة الصليبية الثالثة، التي قادها ملوك أوروبا بأنفسهم، وعلى رأسهم ريتشارد قلب الأسد، ملك إنجلترا. ومرة أخرى، تعامل صلاح الدين مع هذا التحدي بحنكة وشجاعة، ورغم شراسة المعارك، فقد حافظ على القدس تحت الحكم الإسلامي.
في الختام، لا يمكننا أن نختزل إنجاز صلاح الدين في كونه مجرد نصر عسكري. لقد كان، في جوهره، انتصارًا أخلاقيًا وحضاريًا. لقد أثبت أن القوة الحقيقية لا تكمن في البطش، بل في العدل والرحمة حتى في ذروة الانتصار. هذا الإرث هو ما جعله شخصية تحظى باحترام أعدائه قبل أصدقائه، حيث كتب عنه المؤرخون الأوروبيون بإعجاب، ليظل اسمه رمزًا للفروسية والقيادة الحكيمة عبر العصور، وشعلة أمل تضيء دروب الباحثين عن العدل والكرامة.
المصادر:
- “الكامل في التاريخ” لابن الأثير.
- “النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية” لبهاء الدين بن شداد.
- كتابات المؤرخين المعاصرين مثل كارين أرمسترونغ في “القدس: مدينة واحدة، ثلاثة أديان”.
الأسئلة الشائعة:
1. لماذا كان توحيد الجبهة الإسلامية ضروريًا قبل تحرير القدس؟
كان العالم الإسلامي منقسمًا إلى دويلات متناحرة، مما سمح للصليبيين بالاستيلاء على القدس والبقاء فيها. أدرك صلاح الدين أنه لا يمكن مواجهة قوة خارجية موحدة إلا بتوحيد المسلمين أولاً تحت راية واحدة لتشكيل جبهة قوية قادرة على تحقيق النصر.
2. ما هي الأهمية الاستراتيجية لمعركة حطين؟
كانت معركة حطين ضربة قاصمة للقوة العسكرية الصليبية في الشرق. أدت المعركة إلى إبادة الجزء الأكبر من جيش مملكة القدس وأسر معظم قادته، مما جعل المدن الصليبية، بما فيها القدس، بلا حماية تقريبًا، وفتح الطريق أمام صلاح الدين لتحريرها.
3. كيف تعامل صلاح الدين مع سكان القدس المسيحيين بعد الفتح؟
على عكس ما فعله الصليبيون، تعامل صلاح الدين برحمة وتسامح. سمح للسكان بمغادرة المدينة بأمان مقابل فدية رمزية، وأعفى الفقراء والعجزة منها، ودفع عن الكثيرين من ماله الخاص، كما أمّن الكنائس وسمح للمسيحيين الشرقيين بالبقاء وممارسة شعائرهم.
4. ما هو الفرق الجوهري بين فتح صلاح الدين للقدس واحتلال الصليبيين لها؟
الفرق الجوهري يكمن في الأخلاق. احتلال الصليبيين عام 1099 كان مجزرة دموية وحشية، بينما كان فتح صلاح الدين عام 1187 سلميًا تمامًا، قائمًا على العفو والرحمة والتسامح، مما قدم نموذجًا حضاريًا في التعامل مع المهزومين.