الإنترنت الفضائي لم يعد حلاً احتياطيًا بطيئًا، بل تحوّل – بفضل آلاف الأقمار الصناعية في المدار الأرضي المنخفض – إلى منافس حقيقي للألياف البصرية. علاوة على ذلك، يَعِد هذا الابتكار بتقليص الفجوة الرقمية التي ما زالت تفصل 2.6 مليار إنسان عن الاتصال بالشبكة. في هذا الدليل الشامل نستعرض الرحلة من البدايات المتواضعة إلى أحدث الكوكبات، مع تركيز خاص على العالم العربي.
1. الجذور: من GEO عالي الارتفاع إلى أول خدمة تجارية
1-1 ميلاد الفكرة
ظهر الإنترنت الفضائي منتصف التسعينيات عندما استخدمت شركات مثل «Hughes Net» أقمار GEO على ارتفاع ≈ 36 ألف كم. ومع أنّ السرعات آنذاك تجاوزت الاتصال الهاتفي فإن زمن الاستجابة وصل إلى 600 مللي ثانية، الأمر الذي حدّ من رواجه.
1-2 العقدان التاليان
مع بدايات الألفية، حسّنت أنظمة Ka-band الأداء تدريجيًا. غير أنّ الانعطافة الكبرى جاءت عام 2019 مع إطلاق «ستارلينك» أول 60 قمرًا في مدار LEO، لتُقدَّم سرعات تتجاوز 150 ميغابت/ثانية بزمن استجابة يقارب 20 مللي ثانية.
2. حجم السوق العالمي وانفجار الطلب
- بحلول 2025 بلغت قيمة السوق 6.51 مليار دولار، ومن المتوقّع بلوغ 11.35 مليار بحلول 2029 بمعدل نمو مركّب 14.9 %.
- تُشير تقديرات حديثة إلى تجاوز مشتركي ستارلينك خمسة ملايين حتى فبراير 2025، مع هدف ستة ملايين بنهاية العام.
3. لماذا يُعد الإنترنت الفضائي منقذًا للمناطق المحرومة؟
يُشكّل الإنترنت الفضائي طوق نجاة للمناطق الريفية والنائية التي تعاني من ضعف البنية التحتية الأرضية أو انعدامها. فبينما يواصل العالم انتقاله نحو الاقتصاد الرقمي، تظل ملايين الأسر معزولة عن التعليم الإلكتروني، الرعاية الصحية عن بُعد، والخدمات الحكومية الرقمية.
3-1 الولايات المتحدة: الفجوة الرقمية داخل الاقتصاد الأقوى
رغم تقدّمها التكنولوجي، تعاني الولايات المتحدة من تفاوت واضح في الوصول إلى الإنترنت. ففي عام 2015، كانت أكثر من 800 ألف أسرة في نيويورك تفتقر إلى اتصال سريع. وعلى مستوى البلاد، ارتفعت نسبة مستخدمي الإنترنت من 80% عام 2021 إلى 83% في 2023، وفقًا للإدارة الوطنية للاتصالات والمعلومات، إلا أن المناطق الريفية ما زالت متأخرة بسبب الكلفة العالية لمدّ الكابلات الأرضية.
3-2 إندونيسيا: آلاف الجزر تحتاج إلى أقمار
في مايو 2024، أطلقت الحكومة الإندونيسية خدمات الإنترنت عبر “ستارلينك” لتغطية قطاع الصحة في أكثر من 17 ألف جزيرة متفرقة. الهدف كان تحسين الخدمات في المناطق النائية التي يصعب الوصول إليها بالكابلات أو الأبراج الأرضية. وقد مكّنت هذه الخطوة آلاف العيادات من إرسال بيانات طبية في الزمن الفعلي.
3-3 الهند: إيلون ماسك يربح سباق الإنترنت الفضائي
في تحول لافت، فتحت الهند أبوابها رسميًا أمام خدمات “ستارلينك” عام 2024 بعد سنوات من المفاوضات. وبهذا، أصبح ثاني أكبر سوق سكاني في العالم يستعد لربط ملايين القرى عبر الإنترنت الفضائي، خاصة في ولايات مثل بيهار وأتر برديش، حيث تعاني البنية التحتية من ضعف كبير.
وتسعى الهند في هذه التقنية لتقوية النظام التعليمي، وتحقيق العدالة الرقمية، وتمكين الفلاحين من الوصول إلى أسعار السوق لحظة بلحظة. ويرى مراقبون أن دخول ماسك إلى السوق الهندي سيُشعل المنافسة مع مشغّلين محليين مثل Jio وBharti Airtel، وسيسرّع من نشر الشبكات غير الأرضية في شبه القارة الهندية.
3-4 تكنولوجيا مرنة… ومتاحة
بفضل التقدم في تصميم المحطات الطرفية، أصبح بالإمكان نشر الإنترنت الفضائي بسرعة في أماكن تفتقر إلى البنية التحتية. فالأجهزة الحالية تدعم التتبع التلقائي للحزم، وتعمل بالطاقة الشمسية، ويمكن ربطها مباشرة بالهواتف المحمولة دون الحاجة إلى توصيل أرضي.
3-5 الإنترنت كفرصة حياة
في كثير من الحالات، لا يكون غياب الإنترنت مجرد مشكلة تقنية، بل معضلة تنموية. فالمحرومون من الاتصال يعانون من محدودية فرص التوظيف، والعجز عن متابعة الدراسة عن بُعد، وانعدام الوصول إلى خدمات الدعم الاجتماعي، كما أظهرت دراسات مركز “بيو”. في العالم النامي، يرتبط غياب الإنترنت بانخفاض معدلات القراءة والكتابة، وتفاقم الفجوات الطبقية.
لهذا، يُعد الإنترنت الفضائي اليوم وسيلة أساسية لضمان العدالة الرقمية وإدماج المجتمعات في عالم لا يتوقف عن التحول الرقمي.
4. مستقبل الإنترنت الفضائي في العالم العربي
يشهد العالم العربي تطورًا لافتًا في تبني تقنيات الإنترنت الفضائي، مدفوعًا برغبة الحكومات في سد الفجوة الرقمية وتوفير الاتصال للمناطق النائية. في الخليج، تتقدّم دول مثل السعودية والإمارات الصفوف، ليس فقط من أجل تحسين جودة الاتصال، بل لإعادة تعريف البنية التحتية الرقمية بالكامل.
السعودية: الإنترنت الفضائي في قلب رؤية 4-1 2030
في المملكة العربية السعودية، تبرز مشاريع عملاقة مثل “نيوم” كمثال حي على دمج الإنترنت الفضائي في التخطيط الحضري. تُقام مدينة نيوم في منطقة صحراوية شاسعة تطل على البحر الأحمر، حيث لا يمكن الاعتماد بشكل كافٍ على الكابلات الأرضية. لذا، تعتمد نيوم على الأقمار الصناعية لتوفير إنترنت عالي السرعة في مراحل البناء، وتمكين تطبيقات المدن الذكية، مثل أنظمة النقل الذاتية والمراقبة البيئية الذكية.
علاوة على ذلك، سمحت المملكة باستخدام خدمات “ستارلينك” للملاحة الجوية والبحرية، وفتحت الباب أمام الشركات الدولية لتجربة حلول الإنترنت الفضائي داخل أراضيها، خاصة في مناطق الحج والعمرة، حيث تتطلب الخدمات الرقمية بنية قوية ومرنة.
4-2 الإمارات: ريادة في ربط الطيران بالفضاء
أما في الإمارات، فقد بدأت شركات مثل “طيران الإمارات” مفاوضات مع “سبيس إكس” لتحديث خدمة الإنترنت على متن طائراتها باستخدام تقنية الإنترنت الفضائي. تهدف الخطوة إلى تقديم تجربة اتصال غير منقطعة للمسافرين حتى أثناء التحليق على ارتفاعات شاهقة فوق المحيطات.
كما تعمل الإمارات عبر مركز محمد بن راشد للفضاء على تطوير تقنيات اتصالات فضائية محلية، ودراسة جدوى إطلاق أقمار اتصالات خاصة بها لتعزيز الاستقلالية الرقمية.
4-3 مصر: بوابة أفريقيا نحو الإنترنت الفضائي
تحتل مصر موقعًا استراتيجيًا بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، ومع ذلك تعاني بعض المناطق الريفية والنائية من ضعف الاتصال الأرضي. بلغت قيمة سوق الإنترنت الفضائي فيها 8.65 مليون دولار في عام 2024، ومن المتوقع أن تتوسع هذه القيمة مع مشاريع دعم التعليم الرقمي والرعاية الصحية عن بُعد في الصعيد وسيناء والمناطق الحدودية.
وقد بدأت شركات محلية في التعاون مع مزودي خدمات عالمية لجلب محطات استقبال صغيرة الحجم تعمل بالطاقة الشمسية، لتغطية المدارس والمراكز الصحية الريفية بشبكة مستقرة.
4-4 شمال أفريقيا: الإنترنت من المدار بدلًا من الكابل
في دول مثل المغرب، الجزائر، وتونس، تبرز الحاجة إلى حلول بديلة للكابلات البحرية، التي قد تتعرّض للانقطاع بفعل الكوارث الطبيعية أو الصراعات الجيوسياسية. من هنا، يُعد الإنترنت الفضائي خيارًا استراتيجيًا لتعزيز الأمن السيبراني وضمان استمرارية الاتصال.
بدأ المغرب بالفعل تجارب مع شركات مثل “Eutelsat” لتوصيل الإنترنت للمناطق الجبلية، بينما تعمل الجزائر على ربط المدارس الريفية بالأقمار الاصطناعية ضمن خطط التنمية المستدامة حتى عام 2035.
5. التحديات الأربعة الكبرى
- تشتّت التشريعات الطيفية – تأخّر إطلاق ستارلينك في إيطاليا بسبب انتظار سياسة أوروبية موحَّدة.
- الحطام الفضائي – أكثر من 40 ألف جسم يُرصد حاليًا، ممّا يهدّد المدارات المزدحمة.
- الكلفة للمستهلك – برغم انخفاض الأسعار، تبقى أعلى من باقات الخطوط الأرضية في بعض الأسواق.
- المخاطر الجيوسياسية – الاعتماد على مزوّد واحد قد يعرّض المستخدمين للضغط السياسي أو الانقطاع التعسّفي للخدمة.
الخلاصة
يمثل الإنترنت الفضائي اليوم جسرًا حيويًا نحو اقتصاد رقمي شامل؛ فهو يربط الجزر النائية وغرف العمليات الجراحية، كما يدعم إنترنت الأشياء في المزارع والسفن. ومع تسارع الابتكار وحلول التشريعات والبيئة، سيصبح الوصول إلى الشبكة «مسألة سماوية» في متناول الجميع.
المصدر:
- Research and Markets
- The Business Research Company – Global Market Forecasts
- Wikipedia
- NTIA
- Reuters
- ESA
- Reuters
أسئلة وأجوبة حول الإنترنت الفضائي:
ما الفرق بين أقمار GEO و LEO في الإنترنت الفضائي؟
أقمار GEO ثابتة فوق خط الاستواء وتُوفّر تغطية واسعة لكن بزمن استجابة عالٍ، بينما أقمار LEO تدور على ارتفاع أقل من 2000 كم فتمنح سرعة استجابة أعلى بكثير.
هل سرعات الإنترنت الفضائي تنافس الألياف؟
نعم؛ تصل السرعات الحالية إلى 300 ميغابت/ث، ومع الترددات E-band المنتظرة قد تتجاوز 1 غيغابت/ث للمستخدم العادي.
ما تكلفة الاشتراك النموذجية؟
تتراوح حاليًا بين 30 و150 دولار شهريًا، مع معدّات بقيمة 350-500 دولار، بينما تخفّض برامج الإيجار الكلفة الأولية تدريجيًا.
كيف تُعالَج مشكلة الحطام الفضائي؟
تفرض الجهات التنظيمية حدًا أقصى لخمس سنوات من بقاء القمر بعد انتهاء المهمة، وتستعد ESA لإطلاق مهمة ClearSpace-1 لإزالة الحطام عام 2028.



