في عالم الأعمال، غالبًا ما ترتبط قصص النجاح بالبدايات المترفة أو الشهادات الأكاديمية اللامعة. لكن حكاية ميشيل الصايغ تحطم هذه القوالب، لتروي فصلاً فريداً عن الصمود والإصرار؛ قصة ابن مهاجر لنجار فلسطيني، لم تمنعه قسوة اللجوء ومرارة الخسارة من بناء صرح اقتصادي يمتد اليوم عبر ثلاث قارات.
تتجاوز رحلة الصايغ مجرد سرد لأرقام وإنجازات، لتقدم فلسفة متكاملة في الحياة والأعمال. إنها حكاية عن رؤية الفرصة في قلب العاصفة، والإيمان بأن الركود والأزمات ليست النهاية، بل هي أفضل توقيت للانطلاق نحو القمة.
الكيمياء المعاكسة: فن تحويل الأزمات إلى ذهب
على عكس معظم المستثمرين الذين يبحثون عن الاستقرار، بنى ميشيل الصايغ ثروته على مبدأ قد يبدو غريباً: “الركود الاقتصادي والأسواق الساخنة هي سمات لتوقيت استثمار مثالي”. هذه القناعة لم تكن مجرد شعار، بل كانت استراتيجية طبقها ببراعة.
فبعد الهجرة القسرية من فلسطين عام 1948، تحول والده من صناعة الحافلات الخشبية إلى تجارة الدهانات في الأردن. لكن نقطة التحول الحقيقية جاءت على يد الابن. ففي نهاية عام 1969، وبعد خلاف حاد مع شركة دهانات كان وكيلها، اتخذ ميشيل الصايغ قرارًا جريئًا سيغير مجرى حياته. بدلاً من البحث عن وكالة أخرى، قرر أن يصبح هو المُصنّع. وبالشراكة مع خاله وأخيه، تأسست “الشركة الوطنية للدهانات”، التي نعرفها اليوم باسم “دهانات ناشيونال”، الشركة التي تحتل المرتبة 23 عالميًا.
ولم تكن هذه هي الأزمة الوحيدة التي أحسن استغلالها. ففي نهاية عام 1989، عندما ضربت الأردن أزمة عملة طاحنة هوت بقيمة الدينار وأدت لإفلاس شركات كبرى، رأى الصايغ فيها فرصة لا تعوض. وفي الوقت الذي كان فيه الجميع يبيع، كان هو يشتري، حيث استحوذ على 8 شركات متعثرة أثبتت الأيام صحة رؤيته بشأنها.
وعدٌ تحقق بعد 50 عامًا: قصة الإرادة والإصرار
يحمل كل رجل أعمال عظيم قصة شخصية تُلخص إصراره. بالنسبة لشاب في الثانية والعشرين من عمره، أن تُنهي شركة تعاملها معك قد يكون ضربة قاصمة. لكن بالنسبة لميشيل الصايغ، كانت تلك هي الشرارة. في تلك اللحظة، أخبر رئيس تلك الشركة الأردنية المحلية بأنه سيشتري شركته يومًا ما.
قد تبدو هذه الكلمات مجرد تباهي شاب غاضب، لكنها كانت وعدًا صادقًا. وبعد مرور نصف قرن، وفي لفتة ترمز إلى إغلاق دائرة كاملة من الكفاح، استحوذ الصايغ فعلاً على تلك الشركة، محققًا وعده الذي قطعه قبل 50 عامًا. لم يكن الأمر انتصارًا بقدر ما كان تأكيدًا على أن الإرادة الصلبة قادرة على تطويع الزمن.
رؤية شخصية: النجاح ليس بالعبقرية بل بالمبادئ
إن عظمة قصة ميشيل الصايغ تكمن في تواضعه واعترافه بأن النجاح لم يكن وليد ذكاء خارق. فهو يقول: “لم أكن متفوقاً في دراستي، والنوابغ حول العالم أعدادهم بسيطة”. هذا الاعتراف يوجه رسالة قوية ومباشرة: النجاح متاح للجميع.
سلاحه، كما يصفه، كان الالتزام بمبادئ بسيطة لكنها صارمة: الصدق، الأمانة، الشفافية، والإصرار. في عالم المال والأعمال الذي قد يبدو أحيانًا غابة موحشة، أثبت الصايغ أن الأخلاق ليست عائقًا، بل هي الضمانة الأكيدة للاستمرارية، وهي حجر الزاوية الذي يحمي الشركات العائلية من الانهيار.
وتشير الإحصائيات إلى أن حوالي 85% من الشركات العائلية تفشل في الوصول إلى الجيل الثالث، وهو تحدٍ أدركته “مجموعة الصايغ” جيدًا. ولذلك، لجأت المجموعة إلى شركات استشارية متخصصة لبناء هياكل إدارية حديثة وتحديد الأدوار، مما سمح للجيل الجديد بالتركيز على الأنشطة الرئيسية الأكثر تكاملًا مثل الدهانات، العقارات، التعليم، والبنوك.
فن الانسحاب: متى يكون التخلي عن الربح قرارًا صائبًا؟
إحدى أكثر الأفكار إثارة للإعجاب في فلسفة ميشيل الصايغ هي مفهومه للفشل والنجاح. فهو يرى أن “الجمود فشل” بحد ذاته، وأن عدم استمرارية المشروع يُعد فشلاً حتى لو كان لا يزال مربحًا.
لماذا قد يتخلى رجل أعمال عن نشاط تجاري يدر عليه المال؟ يجيب الصايغ بأن بعض الأنشطة “مهلكة للوقت والجهد”، وأن العائد المادي لا يساوي حجم الإرهاق الذهني الذي تسببه. هذا المفهوم، “تكلفة حيز التفكير”، هو درس متقدم في إدارة الأعمال. فالقرار بالتخارج لا يرتبط بالخسائر المالية، بل بعدم القدرة على تطوير النشاط. هذه السياسة، مدعومة بإبقاء سقف الديون منخفضًا، منحت المجموعة مرونة هائلة للتحرك وتصحيح المسار دون انتظار الوصول إلى حافة الهاوية.
في الختام، قصة ميشيل الصايغ ليست مجرد حكاية عن الثراء، بل هي خارطة طريق لكل من واجه عقبة في حياته. إنها دليل حي على أن المنفى، والخسارة، والأزمات يمكن أن تتحول إلى أعظم أصولك إذا امتلكت الرؤية الصحيحة، والإرادة الصلبة، والالتزام بمبادئ لا تتجزأ.
المصدر: العربية
الأسئلة الشائعة حول ميشيل الصايغ:
1. من هو ميشيل الصايغ؟
ميشيل الصايغ هو رجل أعمال أردني من أصل فلسطيني، وهو مؤسس “مجموعة الصايغ” التي تضم تحت مظلتها شركة “دهانات ناشيونال”، واحدة من أكبر شركات الدهانات في العالم. بدأ رحلته بعد هجرة عائلته قسريًا إلى الأردن.
2. ما هي الاستراتيجية التي ميزت نجاح ميشيل الصايغ؟
تميزت استراتيجيته بالاستثمار الجريء خلال الأزمات الاقتصادية والركود، حيث كان يرى في هذه الأوقات فرصًا مثالية للتوسع والاستحواذ على شركات متعثرة بأسعار منخفضة.
3. كيف تعامل ميشيل الصايغ مع فشل بعض مشاريعه؟
كان يرى أن الفشل جزء من رحلة النجاح، وكان معياره للتخارج من أي نشاط هو “عدم القدرة على تطويره”، حتى لو كان مربحًا. كان يفضل التخلي عن المشاريع المرهقة للوقت والجهد للحفاظ على مرونة المجموعة وتركيزها.
4. ما هي الأنشطة الرئيسية الحالية لمجموعة الصايغ؟
تركز المجموعة حاليًا على قطاعات متكاملة تشمل: الدهانات، العقارات، التعليم، الأنشطة المصرفية، الخدمات اللوجستية، والتعبئة والتغليف.
5. ما هي نصيحته لاستمرارية الشركات العائلية؟
يؤكد على أن 85% من الشركات العائلية تفشل، وأن ضمان البقاء يكمن في الالتزام بمبادئ مثل الصدق والشفافية، بالإضافة إلى ضرورة وجود تنظيم وهيكل إداري احترافي يفصل الأدوار ويضمن الحوكمة السليمة.



