إعلان

فتح بلغراد.. الحلم العثماني الذي تكلّل بالنجاح في عهد سليمان القانوني

فتح بلغراد هو أحد أبرز المنعطفات التاريخية في مسيرة الدولة العثمانية، إذ راود هذا الحلمُ سلاطين آل عثمان عبر قرون، وصولًا إلى تحقيقه في غضون أسابيع قليلة تحت راية السلطان سليمان القانوني. يعكس هذا الفتحُ مدى الأهمية الإستراتيجية لمدينة بلغراد، التي كانت أشبه بعقبة حقيقية أمام التمدّد العثماني في عمق القارة الأوروبية.

بدايات التوسع العثماني في البلقان

منذ أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، بدأت الدولة العثمانية الناشئة تتّجه بأنظارها نحو أراضي الإمبراطورية البيزنطية، خاصة الجانب الأوروبي منها. وكان فتح بلغراد جزءًا من إستراتيجية كبرى تستهدف نشر رقعة الإسلام في البلقان، والتقدم نحو إسطنبول التي سعى العثمانيون للسيطرة عليها، فضلًا عن تأمين حدودهم من أي عدوان أوروبي.

واجه العثمانيون مقاومة شرسة في العديد من الحواضر الأوروبية شرقي القارة؛ مثل كوسوفو وسمندرة وأثينا وبلغراد. فقد اتخذت هذه المدن موقفًا عدائيًّا واضحًا للحيلولة دون تقدّم العثمانيين. ولكن المعطّل الأكبر لطموحاتهم كان وقوع هزيمة السلطان بايزيد الأول أمام تيمورلنك في معركة أنقرة سنة 1402. مما أحدث شرخًا سياسيًّا امتدّ من الأناضول وصولًا إلى البلقان.

بناء دول عازلة في وجه التمدّد العثماني

بعد هزيمة أنقرة، حاول الملك المجري سيغيسموند استغلال الوضع لإنشاء دولة حاجزة بين المجر وبين الدولة العثمانية. وقع اختياره على الأمير الصربي ستيفان لازاريفيتش (المعروف باسم لازوغلو) ليكون المكلّف بقيادة هذه الدولة العازلة. وعلى الرغم من أن لازاريفيتش كان تابعًا للدولة العثمانية عقب معركة كوسوفو عام 1389. فإن هزيمة العثمانيين أمام تيمورلنك منحته فرصة لإنهاء ولائه لهم وإعلان تبعيته لملك المجر.

بموجب هذا التحالف مع سيغيسموند، سيطر لازاريفيتش على مساحات واسعة داخل المجر، وتسلّم إدارة مدينة بلغراد التي جعل منها عاصمته. وعلى إثر وفاة لازاريفيتش، تحوّلت بلغراد إلى قبضة المجريين مباشرةً منذ نوفمبر/تشرين الثاني 1427، مما دفع العثمانيين إلى اعتماد سياسة عسكرية فعّالة في المنطقة، مدركين أهمية تحييد حصن بلغراد الحصين وضمان استقرار حدودهم الشمالية الغربية.

إعلان

محاولات مبكرة لفتح بلغراد

رأى السلطان مراد الثاني أن بلغراد هي بوابة مملكة المجر، فحاول الاستيلاء عليها عام 1440. وأشار المؤرخ عاشق باشازاده إلى أن مراد الثاني كان مؤمنًا تمامًا بأن فتح بلغراد هو المفتاح الحقيقي لاختراق دفاعات المجر. لكن الحملة باءت بالفشل بعد حصار دام ستة أشهر بسبب المقاومة الشرسة التي قادها القائد المجري هونياد، والذي كبد العثمانيين خسائر كبيرة أجبرتهم على عقد هدنة لمدة عشر سنوات.

السلطان الفاتح وبلغراد

بقيت بلغراد تمثّل هدفًا عثمانيًّا متجدّدًا؛ لذا عاد السلطان محمد الفاتح، ابن مراد الثاني، لمهاجمتها بعد أن نجح في ضمّ القسطنطينية وأجزاء واسعة من البلقان. حاصر السلطان الفاتح بلغراد من البر والنهر حوالي عام 1455. وكان القائد هونياد نفسه قد دخل القلعة قبل إغلاق مداخلها بالكامل. استمر القتال ببسالة حتى عجز العثمانيون عن مواصلة حصارهم. وانسحبوا من الميدان بعد أن أُصيب هونياد بجراح أودت بحياته بعد نحو عشرين يومًا من فك الحصار.

رغم عدم نجاح السلطان الفاتح في ضمّ بلغراد آنذاك، فقد أسفرت حملاته في مناطق أخرى عن إخضاع كامل أراضي الصرب تقريبًا بحلول عام 1460، مما أنهى استقلالهم. بقيت بلغراد فقط خارج السيطرة العثمانية؛ إذ كانت تحت حماية المجر وتشكل شوكةً حقيقية في خاصرة الدولة العثمانية، ومنطلقًا لعملياتهم العسكرية المضادة في البلقان.

سليمان القانوني يحقق فتح بلغراد

انتظر العثمانيون ستة عقود أخرى حتى جاء السلطان سليمان القانوني، حفيد السلطان الفاتح، والذي حمل همّ فتح بلغراد فور توليه السلطة عام 1520. لم يكن هذا القرار مخططًا له مسبقًا؛ فالعامل الأكثر تأثيرًا كان مقتل السفير العثماني بهرام تشاوش على يد الملك المجري لويس الثاني، مما أشعل غضب السلطان سليمان وأجّل أي حملة أخرى ضد خصومه التقليديين مثل إيطاليا وإيران.

في مايو/أيار 1521، قاد السلطان سليمان القانوني أولى حملاته العسكرية نحو المجر، متجهًا مباشرةً صوب بلغراد التي لم يتمكن أحد من أجداده من انتزاعها. سارت الجيوش العثمانية إلى أدرنة ثم صوفيا، قبل أن ينضم إليها دامات فرهاد باشا على رأس ثلاثة آلاف جمل محملة بالذخائر. وفي الوقت عينه، أبحر الأسطول العثماني بقيادة دانشمند رئيس عبر نهر الدانوب لبلوغ نقطة التقاء نهري السافا والدانوب حيث تقع القلعة.

تطويق بلغراد وحصارها

أصدر السلطان سليمان القانوني أوامره بحصار كل الطرق المؤدية إلى بلغراد منعًا لوصول أي تعزيزات للجيش المجري. فتولّى غازي حسرو بك حماية مدينة سمندرة الحدودية. بينما شنّ قادة الآقنجي، كميهال أوغلو محمد بك وبالي بك، غارات على كرواتيا وترانسيلفانيا لتشتيت انتباه المجريين. بالمقابل، كُلّف الأمير تورهان أوغلو عمر بك بقيادة طليعة الجيش لمراقبة تحركات العدو.

وفي 7 يوليو/تموز 1521، اتجه السلطان لتصفية حساباته القديمة مع قلعة بوغوردلين. التي أسسها جده السلطان الفاتح في إحدى محاولاته الفاشلة لفتح بلغراد. لكن المجريين استعادوها لاحقًا. سقطت القلعة سريعًا في قبضة الجيش العثماني، فأمر السلطان سليمان بإعادة تحصينها ثم أكمل الزحف نحو بلغراد.

بحلول 9 يوليو/تموز، شرع الجنود العثمانيون في بناء جسر على نهر السافا. وأرسل السلطان فرقة لتشييد جسر ثانٍ تحت إشراف قرة جة باشا. وبالفعل، بعد أيام قليلة، تمكنت القوات العثمانية من العبور، وبدأت المعركة النهائية للاستيلاء على القلعة.

دخول السلطان سليمان القانوني إلى بلغراد

استسلمت مدينة بلغراد في أواخر يوليو/تموز 1521، لكن الحامية المجرية تحصّنت داخل القلعة التي اعتبرها العالم المسيحي حصنًا منيعًا لا يُقهر. ورغم المقاومة القوية، واصل السلطان القانوني الهجمات المتتالية من البر والنهر، مستعينًا بالمدفعية والعناصر القتالية المدربة. نجح العثمانيون في اختراق defenses القلعة بعد ثلاثة أسابيع فقط، في إنجاز شبه خارق مقارنةً بفشل الأسلاف الذين حاصروها أحيانًا لنحو عام كامل.

الفتح وتحصين المدينة

يذكر المؤرخ إبراهيم بجوي أفندي، المعاصر للحدث، أن القوات العثمانية انقسمت إلى مجموعاتٍ تولّت كل منها جزءًا من الحصار. لجأت بعض الوحدات إلى حفر الخنادق وتلغيم أسوار القلعة العليا، فيما قصفت المدافع بقوة لاستنزاف المدافعين. في النهاية، اضطرت الحامية إلى طلب الأمان والاستسلام بسبب نفاد المؤن والخلافات الداخلية.

اغتبط السلطان سليمان القانوني بهذا الفتح الذي يعيد إليه مجد أجداده، مثل السلطان مراد الثاني والسلطان الفاتح وبايزيد الثاني، ممن لم يسعفهم الزمن أو الظروف في كسر شوكة بلغراد. وبعد دخول المدينة، أمر القانوني بتحصينها مجددًا بمدافع إضافية ووضع حامية عسكرية قوية فيها لتأمينها. ثم أدى صلاة الجمعة في إحدى كنائسها التي حوّلت فيما بعد إلى مسجد. مُعلنًا أن بلغراد أصبحت بوابةً للمزيد من الفتوحات في عمق أوروبا.

غادر السلطان المدينة بعد تسعة عشر يومًا، تاركًا وراءه 200 مدفع وعددًا وافرًا من الجنود. ليُحكموا سيطرة الدولة العثمانية على قلعة بلغراد والمناطق المحيطة بها. وقد كانت هذه الخطوة التمهيدية لفتح أراضٍ أوسع في القارة. كما سارعت الأقاليم المجاورة إلى إعادة تقييم ولائها السياسي والعسكري في ضوء المستجدات.

انعكاسات فتح بلغراد

يُجمع المؤرخون على أن فتح بلغراد فتح الباب أمام العثمانيين لمواصلة تقدّمهم نحو أوروبا الوسطى. ففي العقود التالية، أصبح طريق التوسّع نحو فيينا — عاصمة النمسا — مفتوحًا، وحوصرت المدينة مرتين في القرنين السادس عشر والسابع عشر. كما ساعد هذا الفتح على ترسيخ الوجود العثماني في البلقان لقرون طويلة. مضيفًا فصلًا جديدًا من التحديات والتغيرات الجيوسياسية في المنطقة.

لم يقتصر الأمر على الجانب العسكري فحسب، بل أحدث الفتح تحولات ثقافية واجتماعية ودينية؛ إذ إن وصول الإسلام إلى وسط أوروبا أخذ بُعدًا جديدًا مع انضواء أجزاء من الصرب والمجر تحت الحكم العثماني. ومن جانب آخر، وفّر فتح بلغراد للعثمانيين أمانًا إستراتيجيًّا وحدوديًّا، وأكسبهم نقطة ارتكاز مهمة للتعامل مع القوى الأوروبية التي باتت تدرك جدّية السلطان سليمان في مواصلة ما بدأه أسلافه من توسّع.


خلاصة:
لقد جسّد فتح بلغراد لحظةً فارقة في تاريخ الدولة العثمانية، إذ شكّل تحقيقًا لحلم راود سلاطينها عبر قرون، وتُوِّج بالنجاح في غضون أسابيع قليلة تحت قيادة السلطان سليمان القانوني. هذا الفتح لم يعزّز النفوذ العثماني في البلقان وحسب. بل مهد الطريق لحصار فيينا وتأثير العثمانيين في عمق القارة الأوروبية طوال قرون تالية، مانحًا إياهم ثقلاً عسكريًّا وسياسيًّا ودينيًّا في قلب أوروبا.

شاركها.

منصة شاملة تقدم محتوى متنوعًا يجمع بين الأخبار الحديثة والمدونات التحليلية، بالإضافة إلى إحصائيات دقيقة، واختبارات تفاعلية، ومقاطع فيديو مبتكرة.

إعلان
Subscribe
Notify of
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
تعليقات داخلية
عرض كل التعليقات
إعلان
wpDiscuz
0
0
حابين نسمع رأيك، اترك تعليقك.x
()
x
Exit mobile version