إعلان

لم تعد شوارع دمشق مجرد ممرات للمارة والسيارات، بل تحولت إلى مرآة تعكس أعمق تشققات المجتمع السوري في مرحلة ما بعد الصراع. إن ظاهرة “باعة البسطات”، وما يرافقها من فوضى وتوترات تصل إلى حد الشجار العنيف، كما وثق فيديو “حادثة جسر الرئيس” الشهير، ليست مجرد مشكلة بلدية عابرة. إنها العرَض الأوضح لثلاث أزمات متداخلة ترسم ملامح العاصمة اليوم: انهيار العقد الاجتماعي، وتحول ديموغرافي هائل، ودولة منهكة تعيد ترتيب أولوياتها نحو البقاء على حساب الحوكمة. هذا البحث يحلل هذه الأزمات ويقترح حلولاً تتطلب مسؤولية مشتركة من الدولة والشعب لإعادة الحياة إلى الفضاء العام.


الفصل الأول: انهيار النظام المدني – حين تصبح “الهمجية” لغة الشارع

إن الهجوم الجماعي الذي شنه باعة البسطات على شاب وثّق مخالفتهم لم يكن مجرد رد فعل مبالغ فيه، بل كان تجسيدًا حيًا لما يمكن وصفه بـ”ثقافة الغلبة”. هذا المفهوم، الذي عبر عنه المواطنون بكلمة “همجية”، ينشأ حتمًا عندما يتبخر الإيمان بالقانون والمؤسسات. في بيئة كهذه، يصبح العنف هو الأداة الأسرع والأكثر فعالية لحل النزاعات وحماية “المكتسبات”، حتى لو كانت هذه المكتسبات مجرد بضعة أمتار على رصيف محتل.

هذا السلوك يكشف عن حقيقة مرة: قطاعات واسعة من المجتمع لم تعد ترى في مؤسسات الدولة حَكمًا عادلاً أو حاميًا للحقوق، بل خصمًا أو كيانًا غائبًا. وبالتالي، يتم استبدال سلطة القانون بسلطة الأمر الواقع. إن تمديد كابل كهربائي مسروق عبر طريق عام، واحتلال الرصيف، ثم مهاجمة من يعترض، كلها فصول في قصة واحدة عنوانها غياب الدولة المدنية وسيادة شريعة الغاب، حيث البقاء للأقوى والأعلى صوتًا.


الفصل الثاني: عاصمة مثقلة بالنزوح – إعادة تشكيل دمشق ديموغرافيًا واجتماعيًا

تعتبر ملاحظة أن “أغلبية هؤلاء الباعة هم من محافظات أخرى” حجر الزاوية في فهم التحول العميق الذي أصاب دمشق. على مدى العقد الماضي، استقبلت العاصمة موجات هائلة من النزوح الداخلي. ملايين السوريين الذين هجّرتهم الحرب من مدنهم وقراهم في حلب وحمص ودرعا وإدلب وغيرها، وصلوا إلى دمشق لاجئين في وطنهم، حاملين معهم صدماتهم النفسية وواقعهم الاقتصادي المدمر.

هذا التحول الديموغرافي القسري أدى إلى نتائج حتمية:

إعلان
  1. اقتصاد الظل كطوق نجاة: بالنسبة لنازح فقد منزله وعمله، لا تعتبر “البسطة” خيارًا مهنيًا بقدر ما هي الأداة الوحيدة المتاحة للبقاء على قيد الحياة. لقد أصبح الاقتصاد غير الرسمي هو المشغّل الأكبر في البلاد، والبسطات هي واجهته الأكثر وضوحًا.
  2. تآكل الهوية المدنية: لكل مدينة نسيجها الاجتماعي وقواعدها غير المكتوبة. لقد أدى هذا التدفق السكاني الهائل والمفاجئ إلى إضعاف هذا النسيج. ثقافة “ابن البلد” الدمشقية، التي كانت تقوم على درجات من احترام الفضاء العام والجيرة، وجدت نفسها في مواجهة ثقافة “البقاء أولاً” التي فرضتها ظروف النزوح القاسية.
  3. الضغط على البنية التحتية: لم تكن دمشق مهيأة لاستيعاب هذه الأعداد، مما أدى إلى ضغط هائل على كل شيء: السكن، المواصلات، الخدمات، وبالطبع، الأرصفة والشوارع التي تحولت إلى أسواق مفتوحة.
باعة جائلون في جسر الرئيس

الفصل الثالث: الدولة المشغولة – أزمة الأولويات الاستراتيجية

إن سياسة الدولة المتأرجحة تجاه باعة البسطات – بين حملات المطاردة الخجولة والتغاضي شبه الكامل – ليست نتاج تردد أو ضعف إداري فقط، بل هي نتيجة حتمية لأزمة أولويات كبرى. النظام في دمشق يدير معركة بقاء على المستوى الوطني والدولي، وفي قائمة أولوياته، تأتي مشكلة البسطات في مرتبة متدنية جدًا.

الدولة اليوم تكرس جُل طاقاتها وملفاتها الأمنية والسياسية المعقدة لقضايا تعتبرها وجودية، مثل:

  • التعامل مع الوضع في شمال شرق سوريا وسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
  • إدارة التوترات السياسية والأمنية في الجنوب، وتحديدًا في السويداء مع الحراك الشعبي وما يُعرف بـ**”جماعات الدروز”**.
  • مراقبة ومواجهة أي تحركات لـ**”فلول النظام السابق”** أو خلايا المعارضة المسلحة.
  • إدارة علاقاتها المعقدة مع الحلفاء الإقليميين والدوليين.
نقطة تفتيش في شارع سوري

أمام هذه الملفات الثقيلة، تصبح إدارة الشأن البلدي ترفًا. فالدولة، من منظور استراتيجي، قد ترى في التغاضي عن البسطات “صمام أمان” يمتص جزءًا من البطالة والغضب الشعبي، ويمنع انفجار أزمة جوع قد تكون أخطر على استقرارها من فوضى الشوارع. إنها مقايضة غير معلنة: “الفوضى المنظمة” مقابل تجنب “الثورة الاجتماعية”.


الفصل الرابع: خريطة طريق للحل – مسؤولية الدولة والمجتمع

الحل لا يمكن أن يكون أمنيًا بحتًا، فمطاردة الفقراء لا تقضي على الفقر. الحل يتطلب رؤية متكاملة ومسؤولية مشتركة من الطرفين:

أولاً: الحلول المطلوبة من الدولة (الانتقال من الإدارة إلى الحوكمة)

  1. التنظيم بدلاً من الإزالة: التخلي عن حملات المطاردة غير المجدية، والبدء فورًا في تخطيط أسواق شعبية منظمة في مناطق حيوية ومحددة. يجب أن تكون هذه الأسواق ذات إيجارات رمزية، ومزودة بالبنية التحتية الأساسية (كهرباء، نظافة، أمن).
  2. ترخيص الأكشاك وتبسيط الإجراءات: إطلاق نظام “رخصة الكشك الصغير” بإجراءات سريعة ورسوم منخفضة، مما ينقل البائع من خانة “المخالف” إلى خانة “العامل المرخص”. ويحفظ كرامته ويضمن حداً أدنى من التنظيم.
  3. إعادة تعريف الفضاء العام: يجب على مخططي المدن الاعتراف بالواقع الجديد ودمج أماكن مخصصة للبيع ضمن خطط تطوير الأحياء. بدلاً من التعامل مع الأرصفة على أنها مساحات مقدسة لا يمكن المساس بها.
  4. محاربة الفساد الصغير: يجب أن تبدأ هيبة الدولة من موظفيها. شن حملات جادة ضد الرشاوى التي يتقاضاها بعض موظفي البلديات للتغاضي عن المخالفات، فهذا الفساد هو الذي يشجع على الفوضى.

ثانيًا: الحلول المطلوبة من الشعب (الانتقال من الشكوى إلى المبادرة)

  1. تشكيل لجان الأحياء: يمكن لسكان الأحياء المتضررة تشكيل لجان أهلية للتواصل المباشر مع تجمعات الباعة في منطقتهم. الهدف هو التفاوض على قواعد مشتركة (مثل تحديد ساعات العمل، الالتزام بالنظافة، عدم إغلاق مداخل الأبنية) بدلاً من الصدام الفردي.
  2. الضغط المدني المنظم: بدلاً من الشكاوى الفردية. يمكن للجان الأحياء تقديم عرائض جماعية ومنظمة إلى البلديات، والمطالبة بتطبيق حلول التنظيم (مثل إنشاء سوق شعبي في منطقتهم). هذا يحول الشكوى من تذمر إلى مطلب سياسي.
  3. دعم النماذج الناجحة: في حال قامت الدولة بتخصيص أماكن منظمة، يقع على عاتق المواطنين والمستهلكين دعم هذه الأماكن والشراء منها، لتشجيع الباعة على الانتقال إليها وهجر الأرصفة.
  4. نشر ثقافة المسؤولية المشتركة: يجب أن يدرك الجميع أن الشارع ملك للجميع. هذا يتطلب من المارة عدم استفزاز الباعة. ويتطلب من الباعة احترام حق المارة. هذه الثقافة لا تبنيها الدولة وحدها، بل هي نتاج حوار مجتمعي.

إن شوارع دمشق اليوم هي قصة سوريا المصغرة. قصة شعب يبحث عن فرصة، ودولة تكافح من أجل البقاء. والحل لن يأتي من طرف واحد. فالدولة مطالبة بالعودة إلى دورها كمنظم وحاكم رشيد، والمجتمع مطالب بالانتقال من حالة الصراع والفوضى إلى حالة الحوار والمبادرة. إن إعادة بناء أرصفة دمشق هي الخطوة الأولى في رحلة طويلة وشاقة لإعادة بناء الثقة والوطن.

شاركها.

منصة شاملة تقدم محتوى متنوعًا يجمع بين الأخبار الحديثة والمدونات التحليلية، بالإضافة إلى إحصائيات دقيقة، واختبارات تفاعلية، ومقاطع فيديو مبتكرة.

إعلان
Subscribe
Notify of
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
تعليقات داخلية
عرض كل التعليقات
إعلان
wpDiscuz
0
0
حابين نسمع رأيك، اترك تعليقك.x
()
x
Exit mobile version