إعلان

تخيل مشهدًا حقيقيًا من صحراء الكويت عام 1991، ليس من فيلم خيال علمي، بل من واقع مرير. مع انسحاب القوات العراقية، تم تنفيذ سياسة “الأرض المحروقة” بشكل لم يسبق له مثيل، حيث أشعلت النيران عمدًا في 732 بئر نفط. لم تكن مجرد نيران عادية، بل كانت نوافير من الجحيم تندفع من باطن الأرض، مطلقًة ألسنة لهب وصل ارتفاعها إلى 50 مترًا، بينما غطّى دخان أسود كثيف السماء وحجب ضوء الشمس لأشهر. لقد تحولت الصحراء الذهبية إلى كابوس أسود، حيث كانت الأرض تغلي بالنفط الخام المشتعل.

حجم الكارثة بالأرقام

لفهم هول الموقف، دعنا نرى الأرقام. يوميًا، كانت حرائق آبار النفط في الكويت تلتهم ما يقدر بـ 4 إلى 6 ملايين برميل من النفط الخام وما يقارب 70 إلى 100 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي. لو تُركت هذه النيران وشأنها، لتوقّع الخبراء أنها قد تستمر في الاشتعال لمدة قرن كامل. حتى مع وضع خطط التدخل السريع، كانت التقديرات الأولية تشير إلى أن عملية الإطفاء قد تستغرق ما بين ثلاث إلى خمس سنوات. لقد كانت كارثة بيئية واقتصادية بكل المقاييس.

المواجهة الأولى: الماء والرمل ضد الجحيم

في البداية، وصلت فرق الإطفاء الدولية مجهزة بأساليب تقليدية ومعدات ثقيلة. كانت الخطة تعتمد على بناء بحيرات صناعية من مياه البحر لضخ كميات هائلة من الماء عبر خراطيم عالية الضغط، بالإضافة إلى استخدام الرمال والحجارة المقاومة للحرارة لبناء حواجز. كان الهدف طموحًا: إخماد بئر واحد يوميًا.

ولكن، سرعان ما اصطدمت هذه الفرق بواقع قاسٍ. لم يكن النفط وحده هو ما يحترق، بل كان ممزوجًا بالغاز الطبيعي ذي الضغط الهائل، مما جعل ألسنة اللهب تعود للاشتعال فورًا بعد إخمادها. علاوة على ذلك، كانت الحرارة المنبعثة شديدة لدرجة أن الرمال المحيطة بالآبار تحولت إلى زجاج، والنفط القريب من فوهات الآبار كان يغلي حرفيًا. عمل رجال الإطفاء في ظروف لا يمكن تصورها، حيث كانوا يضطرون باستمرار لرش الماء على أنفسهم وملابسهم الواقية لتجنب الاحتراق.

الحل الجذري: ترويض النار بالمتفجرات

عندما فشلت الطرق التقليدية، لجأ الخبراء إلى حل يبدو جنونيًا ولكنه فعال: المتفجرات. كان الأسلوب يعتمد على وضع براميل من مادة C-4 المتفجرة بالقرب من فوهة البئر المشتعلة وتفجيرها عن بعد. الفكرة العلمية وراء ذلك هي أن الانفجار يستهلك الأكسجين المحيط باللهب بشكل لحظي وسريع جدًا. مما يؤدي إلى “إطفاء” النار، تمامًا كما تطفئ شمعة بنفخة قوية.

إعلان

وبالفعل، نجح هذا الأسلوب في إخماد العديد من الحرائق فورًا. ومع ذلك، لم يكن خاليًا من المخاطر؛ فأحيانًا كان الانفجار يؤدي إلى تدمير رأس البئر وتوسيع الفتحة. مما يجعل السيطرة على تدفق النفط لاحقًا مهمة أكثر تعقيدًا. وفي بعض الحالات، كانت الآبار التي تم إطفاؤها تستمر في قذف ضباب زيتي كثيف في الهواء. مكونًا ما عُرف بـ “المطر الزيتي” الذي لوّث كل شيء لمسافة كيلومترات. والمفارقة أن الخبراء اضطروا في بعض الأحيان إلى إعادة إشعال هذه الآبار الملوثة للسيطرة على التسرب وتحويله إلى حريق يمكن التعامل معه لاحقًا.

ابتكارات وليدة اليأس: دبابة “الريح العاتية”

مع استمرار المعركة الشرسة، ظهرت حلول هندسية مبتكرة. كان أبرزها وأكثرها إثارة للإعجاب هو “Big Wind” (الريح العاتية)، وهو وحش ميكانيكي تم تصنيعه في المجر. كان عبارة عن دبابة سوفييتية من طراز T-34 أزيل برجها ورُكّب مكانه محركا نفاثان من طائرة MiG-21. كانت هذه الآلة الجبارة تقترب من البئر المشتعل وتطلق تيارًا هائلاً من رذاذ الماء (بمعدل 3000 لتر في الدقيقة) بقوة دفع المحركات النفاثة، مما يخلق تيارًا من الضباب المائي قادرًا على إخماد أعنف الحرائق في دقائق معدودة. بالتزامن مع ذلك، كانت فرق أخرى تعمل على إصلاح الأنابيب والصمامات المدمرة بأسلوب “أطفئ واحدًا وأصلح واحدًا” لضمان السيطرة الكاملة على كل بئر.

وجهة نظر شخصية

تمثل هذه الكارثة وجهين متناقضين للطبيعة البشرية. الوجه الأول هو القدرة التدميرية الهائلة الناتجة عن الحرب والكراهية. حيث يمكن لقرار واحد أن يطلق العنان لجحيم بيئي يستمر لأجيال. أما الوجه الثاني، وهو الأكثر إشراقًا، فيتمثل في الإصرار البشري المذهل والبراعة الهندسية والتعاون الدولي. إن تحويل دبابة قتال إلى أداة إطفاء هو أبلغ مثال على قدرتنا على تحويل أدوات الحرب إلى وسائل للشفاء والبناء. لقد أظهرت فرق الإطفاء من مختلف أنحاء العالم شجاعة لا مثيل لها، مؤكدين أن الإرادة البشرية قادرة على مواجهة حتى التحديات التي تبدو مستحيلة.

في النهاية، وبعد 300 يوم فقط من العمل الدؤوب والمضني، تم إخماد آخر بئر نفط في السادس من نوفمبر عام 1991، في إنجاز فاق كل التوقعات. لقد كانت معركة ملحمية، ورغم انتصار الإنسان على النيران، إلا أن ندوبها البيئية ما زالت تذكرنا بالثمن الباهظ للحروب.

المصدر:

معلومات تاريخية موثقة من أرشيف حرب الخليج الثانية وتقارير بيئية حول الكارثة.


1. كم عدد آبار النفط التي أُشعلت في الكويت عام 1991؟

تم إشعال النيران في 732 بئر نفط كجزء من سياسة الأرض المحروقة التي نفذتها القوات العراقية المنسحبة.

2. كم من الوقت استغرقت عملية إطفاء جميع الحرائق؟

على الرغم من أن التوقعات الأولية كانت تشير إلى أنها قد تستغرق ما يصل إلى خمس سنوات. إلا أنه بفضل الجهود الدولية والأساليب المبتكرة، تم إخماد آخر حريق بعد حوالي 300 يوم (حوالي 10 أشهر) في نوفمبر 1991.

3. ما هي أغرب طريقة استخدمت في إطفاء الحرائق؟

كانت أبرز الطرق غير التقليدية هي استخدام المتفجرات لإخماد اللهب عن طريق استهلاك الأكسجين. بالإضافة إلى استخدام دبابة “الريح العاتية” (Big Wind) المزودة بمحركي طائرة نفاثة لرش الماء بقوة هائلة.

4. هل كانت هناك عواقب بيئية طويلة الأمد؟

نعم، كانت العواقب وخيمة. تسببت الحرائق في تلوث الهواء بشكل كارثي، وهطول أمطار زيتية، وتكوين بحيرات نفطية سامة دمرت أجزاء واسعة من النظام البيئي الصحراوي، ولا تزال بعض آثارها قائمة حتى اليوم.

شاركها.

منصة شاملة تقدم محتوى متنوعًا يجمع بين الأخبار الحديثة والمدونات التحليلية، بالإضافة إلى إحصائيات دقيقة، واختبارات تفاعلية، ومقاطع فيديو مبتكرة.

إعلان
Subscribe
Notify of
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
تعليقات داخلية
عرض كل التعليقات
إعلان
wpDiscuz
0
0
حابين نسمع رأيك، اترك تعليقك.x
()
x
Exit mobile version