إعلان

لم يعد صعود تركيا كقوة مؤثرة في سوق الطائرات المسيّرة والأنظمة الدفاعية مجرد طموح، بل حقيقة راسخة تعيد تشكيل موازين القوى الجيوسياسية وتفرض واقعًا جديدًا في أسواق السلاح العالمية. فمن خلال استراتيجية طموحة اعتمدت على منظومة صناعية متكاملة وابتكار محلي، نجحت أنقرة في الانتقال من دولة مستوردة للتكنولوجيا إلى واحدة من أبرز الدول المصدرة لها، خاصة في قطاع الطائرات بدون طيار الذي أصبحت تهيمن على حصة كبيرة منه.

طائرة بيرقدار TB2، السلاح التركي الذي غيّر مفاهيم الحرب الحديثة وأعاد رسم الخرائط الجيوسياسية.

الهيمنة بالأرقام: قصة نجاح تمتد عبر القارات

تتحدث الأرقام عن نفسها بوضوح. ففي عام 2024، حطمت صادرات قطاع الصناعات الدفاعية والطيران التركي الأرقام القياسية لتتجاوز 7.15 مليار دولار. وهذا النجاح لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج منظومة ضخمة تضم الآن نحو 3,500 شركة تعمل في الصناعات الدفاعية، وتوظف ما يقارب 100,000 عامل مؤهل، مما يعكس عمق القاعدة الصناعية التي بنتها تركيا على مدى سنوات.

شركة أسيلسان للصناعات الدفاعية احتفلت قبل أيام بمرور 50 عاما على تأسيسها – الجزيرة

واليوم، تصل المنتجات الدفاعية التركية إلى ما يقارب 180 دولة حول العالم، وهو انتشار جغرافي واسع يبرهن على الثقة المتزايدة في جودة وفعالية هذه الأنظمة. أما في سوق المسيّرات المسلحة، فتظهر هيمنة تركيا بشكل جلي؛ حيث يشير تقرير “CNAS Drone Proliferation Dataset” إلى أن تركيا مسؤولة عن حوالي 65% من مبيعات المسيّرات المسلحة منذ عام 2018 من إجمالي الصفقات التي شملتها الدراسة (بالمقارنة مع الصين والولايات المتحدة)، مما يجعلها القوة الرائدة في هذا القطاع الاستراتيجي.

تحليل خاص: سر “الوصفة” التركية للنجاح

يكمن نجاح تركيا في هذا القطاع في مزيج فريد من عدة عوامل حاسمة، يمكن تلخيصها في معادلة “التكلفة، الفعالية، والإرادة السياسية”:

  • التكلفة التنافسية: تقدم الشركات التركية منتجات عالية التقنية بأسعار أقل بكثير من نظيراتها الغربية أو الإسرائيلية. طائرة مثل “بيرقدار TB2” أثبتت فعاليتها القتالية العالية مع تكلفة تشغيلية وإنتاجية منخفضة، مما جعلها خيارًا جذابًا لعشرات الدول.
  • الفعالية المثبتة في الميدان: السمعة القوية التي اكتسبتها تركيا لا تُقاس فقط بحجم المبيعات، بل بالأداء الفعلي في ساحات العمليات. النجاحات الميدانية الكاسحة لمسيّرات مثل TB2 وAkıncı في سيناريوهات قتالية معقدة في ليبيا، وإقليم ناغورنو كاراباخ بأذربيجان، وصولًا إلى أوكرانيا، كانت أفضل حملة تسويقية لهذه الأنظمة، حيث أظهرت قدرتها الفائقة على تغيير مسار المعارك وحسمها.
  • دبلوماسية المسيّرات: لم تعد تركيا تبيع مجرد أسلحة، بل أداة لتوسيع نفوذها الدبلوماسي والجيوسياسي. أصبحت “دبلوماسية المسيّرات” مكونًا أساسيًا في السياسة الخارجية التركية، حيث تساهم هذه الصفقات في بناء تحالفات استراتيجية وتعميق الشراكات مع دول في أفريقيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط.
  • غياب القيود السياسية المعقدة: غالبًا ما تكون الدول الراغبة في شراء تكنولوجيا عسكرية متطورة مقيدة بشروط سياسية صارمة من قبل الدول المصنّعة الكبرى. تركيا، من جانبها، أبدت مرونة أكبر في عقد الصفقات، مما فتح لها أسواقًا كانت مغلقة أمام منافسيها.

من المسيّرات إلى الجيل الخامس: ترسانة تركيا المتكاملة

المقاتلة الوطنية KAAN، مشروع تركيا الاستراتيجي لدخول نادي مصنعي مقاتلات الجيل الخامس وتحقيق السيادة الجوية – أناضول

إلى جانب شركة بايكار ومنتجاتها الأيقونية، تضم المنظومة الدفاعية التركية شركات عملاقة أخرى مثل الشركة التركية لصناعات الفضاء (TUSAŞ/TAI)، وروكيتسان (Roketsan) للذخائر الذكية، وأسيلسان (Aselsan) للأنظمة الإلكترونية.

إعلان

ولكن الطموح الأكبر يتجسد الآن في مشروع المقاتلة الوطنية “قآن” (KAAN). هذا المشروع لا يمثل فقط قفزة تكنولوجية هائلة لبناء مقاتلة شبحية من الجيل الخامس، بل هو إعلان عن نية تركيا تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل في مجال القوة الجوية. تهدف “قآن” إلى تقليل الاعتماد على المقاتلات الأجنبية وتأمين السيادة الجوية التركية لعقود قادمة.

الطموحات لا تتوقف عند الاستخدام المحلي؛ فمن المتوقع أن تصبح “قآن” منتجًا تصديريًا رئيسيًا. وقد ظهرت ملامح هذا التوجه بالفعل مع الإعلان عن طلب مبدئي لتوريد 48 مقاتلة إلى إندونيسيا، في صفقة تتضمن مشاركة في التصنيع ونقل التكنولوجيا. ورغم أن الجدول الزمني المفترض لبدء التسليم يُشير إلى عام 2028، إلا أنه يظل مرتبطًا بتجاوز العديد من التحديات التقنية والسياسية.

نظرة مستقبلية: طموحات تتجاوز السماء

لا يبدو أن سقف الطموح التركي له حدود. تهدف أنقرة إلى رفع قيمة صادراتها الدفاعية إلى 10 مليارات دولار بحلول عام 2030، مع التركيز على الأنظمة الأكثر تعقيدًا وتطورًا.

من المتوقع أن تستمر تركيا في تطوير أجيال جديدة من المسيّرات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي وتتميز بقدرات شبكية (swarm capabilities)، بالإضافة إلى دخولها بقوة في سوق الأنظمة البحرية غير المأهولة والمقاتلات الجوية. كما ستسعى لتعزيز الاكتفاء الذاتي في المكونات الحساسة مثل المحركات وأجهزة الاستشعار.

هذا التطور يعزز مكانة تركيا ليس فقط كقوة عسكرية إقليمية، بل كلاعب عالمي مؤثر في مجالات التكنولوجيا والدبلوماسية. اقتصاديًا، يساهم هذا القطاع في توفير إيرادات ضخمة وخلق وظائف عالية المهارة. أما استراتيجيًا، فهو يمنح تركيا درجة غير مسبوقة من الاستقلالية في قرارها العسكري والسياسي، ويقلل من اعتمادها على الخارج، ويمكّنها من تشكيل الأحداث في محيطها الإقليمي بما يخدم مصالحها الوطنية.

باختصار، قصة صعود الصناعات الدفاعية التركية هي شهادة على أن الإرادة السياسية المقترنة بمنظومة صناعية متكاملة قادرة على تغيير المعادلات الاستراتيجية وخلق قوة تكنولوجية يُحسب لها ألف حساب في الساحة الدولية.

شاركها.

منصة شاملة تقدم محتوى متنوعًا يجمع بين الأخبار الحديثة والمدونات التحليلية، بالإضافة إلى إحصائيات دقيقة، واختبارات تفاعلية، ومقاطع فيديو مبتكرة.

إعلان
Subscribe
Notify of
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
تعليقات داخلية
عرض كل التعليقات
إعلان
wpDiscuz
0
0
حابين نسمع رأيك، اترك تعليقك.x
()
x
Exit mobile version