إعلان

ساحة السياسة الجديدة.. في جيبك

تخيل هذا المشهد العالمي المتزامن: شاب في جاكرتا يشاهد مقطع فيديو غاضب مدته 15 ثانية عن الفساد المحلي، ثم يمرر إصبعه ليشاهد تحدي رقص رائج. في الوقت نفسه، طالبة في باريس تتفاعل بحماس مع منشور يُلخص سياسات الهجرة الأوروبية في بضع جُمل نارية، وبعدها مباشرة تتلقى إعلاناً عن أحدث صيحات الموضة. وفي ساو باولو، يضحك مراهق على “ميم” يسخر من مرشح رئاسي، ثم يشارك مقطعاً لصديقه. هذا لم يعد سلوكاً هامشياً، بل هو الواقع اليومي لمئات الملايين من الشباب حول العالم.

وفقاً لتقرير الأخبار الرقمية الصادر عن معهد رويترز لعام 2023، أصبح “تيك توك” مصدراً إخبارياً رئيسياً لما يقارب 20% من الشباب بين 18 و24 عاماً، متجاوزاً المصادر التقليدية. وبالتالي، لم يعد السؤال هو “هل يستخدم الشباب هذه المنصات للسياسة؟” بل أصبح السؤال الأعمق والأكثر إلحاحاً: “ماذا يفعل تيك توك بالسياسة، وكيف يعيد تشكيل الوعي السياسي للشباب أنفسهم؟”

شعار تطبيق تيك توك والشركة المالكة بايت دانس (رويترز)

“اقتصاد الغضب”: عندما يصبح الصراع هو المنتج العالمي

في البداية، يجب أن نفهم أن منصات التواصل الاجتماعي لا تعمل كقنوات إخبارية محايدة، بل كشركات عملاقة تعمل ضمن ما يُعرف بـ “اقتصاد الانتباه”. هدفها الأساسي ليس تثقيفك، بل إبقاؤك على المنصة لأطول فترة ممكنة. ولتحقيق ذلك، اكتشفت خوارزمياتها أن أسرع طريق لجذب الانتباه هو عبر إثارة المشاعر القوية. وعلى رأس هذه المشاعر يأتي الغضب، الخوف، والانقسام.

وسائل التواصل الاجتماعي

الآلية بسيطة وقوية: المحتوى الذي يثير الجدل ويولد تعليقات غاضبة ومشاركات انفعالية يحصل على دفعة خوارزمية هائلة. ونتيجة لذلك، لا يصبح المحتوى المتطرف مجرد “رأي” هامشي، بل يتحول إلى “منتج” ناجح ومربح. يتم مكافأة الصراع لأنه يضمن التفاعل. هذا النموذج لا يقتصر على تأجيج الاستقطاب في الانتخابات الأمريكية فحسب، بل هو آلية عالمية تعزز الانقسامات المحلية أينما كانت: فهي تؤجج النقاشات حول الهوية القومية في أوروبا، وتعمق الخلافات حول القضايا الاجتماعية في أمريكا اللاتينية، وتغذي التوترات الدينية في جنوب آسيا. في النهاية، الخوارزمية لا تفهم السياق، لكنها تفهم الصراع.

وهم الأصالة: معضلة “المؤثر السياسي” عالمياً

أحد أسباب نجاح هذه المنصات في تشكيل الوعي السياسي للشباب هو تفضيلهم للمحتوى الذي يبدو “أصيلاً”. الشاب اليوم يثق في مؤثر يتحدث إلى الكاميرا بأسلوب “السيلفي” من غرفة نومه أكثر من نشرة أخبار رسمية من مؤسسة إعلامية كبرى. هذه “الأصالة” المزعومة، مع ذلك، تخلق معضلة خطيرة.

إعلان

إنها تبني ما يسميه علماء النفس “علاقة شبه اجتماعية” (Parasocial Relationship)، وهي علاقة عاطفية أحادية الجانب يشعر فيها المتابع بأنه يعرف المؤثر شخصياً. وبالتالي، لا يصبح الولاء للفكرة أو للبرنامج السياسي، بل للشخص نفسه. يتم اختزال القضايا العالمية المعقدة، مثل تغير المناخ أو السياسات الاقتصادية، في مقاطع فيديو قصيرة ومُبسطة بشكل خطير لتناسب صيغة المنصة.

تأثير تيك توك على الشباب

هذا التحول له أثر عالمي واضح: صعود القادة الشعبويين والسياسيين الذين يتقنون “لعبة تيك توك”. هؤلاء يبنون شعبيتهم ليس على أساس برامج سياسية مدروسة، بل على كاريزما شخصية وقدرة على إنتاج محتوى جذاب ومثير للانقسام. باختصار، تتحول السياسة من نقاش حول السياسات إلى مسابقة شعبية بين المؤثرين.

فجوة المشاركة: بين التفاعل الرقمي والفعل المدني

هنا يكمن التناقض الأكبر: يبدو الشباب اليوم “مُسيّسين” أكثر من أي وقت مضى. إنهم يتابعون الأخبار على مدار الساعة، يتجادلون في أقسام التعليقات، ويشاركون المنشورات بحماس. ولكن، هل يُترجم هذا التفاعل الرقمي المحموم بالضرورة إلى مشاركة مدنية فعالة ومستدامة على أرض الواقع؟

تشير الأدلة إلى وجود فجوة متزايدة. هذا ما يُعرف بـ “النشاط التراخي” (Slacktivism)، حيث يمنح التفاعل الرقمي (مثل التوقيع على عريضة إلكترونية أو تغيير صورة الملف الشخصي) شعوراً زائفاً بالإنجاز والتأثير. هذا الشعور قد يقلل من الدافع للانخراط في العمل المدني الحقيقي الذي يتطلب وقتاً وجهداً وتنسيقاً، مثل التصويت في الانتخابات، أو العمل التطوعي المجتمعي، أو الانضمام إلى المنظمات المحلية.

الأثر العالمي لهذه الظاهرة هو خطر نشوء جيل يشعر بأنه “مشارك” وفاعل سياسياً لأنه يعلّق ويشارك المنشورات، لكنه في الواقع قد يكون غائباً تماماً عن عمليات صنع القرار الفعلية التي سترسم ملامح مستقبله.

نحو “مواطَنة رقمية ناضجة” – استراتيجيات لجيل عالمي

ختاماً، المشكلة ليست في التكنولوجيا بحد ذاتها، فالوصول إلى المعلومات أداة قوية. المشكلة تكمن في النموذج التجاري الذي يحرك هذه المنصات، والذي يتعارض بشكل أساسي مع متطلبات الديمقراطية الصحية التي تحتاج إلى الحوار المتأني، والتفكير النقدي، والحلول الوسط. إذن، كيف يمكننا المضي قدماً؟

  • للشباب: الخطوة الأولى هي تنمية “محو الأمية الخوارزمية”. يجب أن تدرك أن صفحتك الرئيسية (Feed) ليست نافذة شفافة على العالم، بل هي مرآة مصممة لتعكس وتضخم انفعالاتك وتحيزاتك. ابحث بوعي واستباقية عن وجهات نظر مختلفة خارج فقاعتك الرقمية.
  • للمعلمين والمربين: من الضروري دمج التفكير النقدي حول الإعلام الرقمي في المناهج الدراسية. يجب تعليم الشباب كيفية التمييز بين الرأي والحقيقة، وبين الشخصنة والقضية، وكيفية التعرف على أساليب التلاعب العاطفي.
  • لصناع المحتوى المسؤولين: يقع على عاتقهم تحدي ابتكار محتوى سياسي ذكي يحترم عقل المشاهد، ويشرح التعقيدات بأسلوب جذاب، ويثبت أن المحتوى الهادف والموضوعي يمكنه أيضاً أن يحقق النجاح والانتشار.

إن الجيل الرقمي يمتلك الأدوات اللازمة ليكون الجيل الأكثر اطلاعاً ومشاركة في تاريخ البشرية. لكن هذا لن يتحقق إلا إذا تعلم أفراده كيفية استخدام هذه الأدوات بوعي ونقد، ليصبحوا سادة خوارزمياتهم لا عبيداً لها. إن بناء عادة بسيطة مثل تصفح موقع وكالة أنباء عالمية موثوقة لبضع دقائق يومياً، قد يكون أقوى سلاح ضد التضليل والاستقطاب الخوارزمي الذي يهددنا جميعاً.

المصدر:

  • Reuters Institute Digital News Report 2023.

قسم الأسئلة الشائعة

1. كيف تؤثر خوارزميات “تيك توك” على الوعي السياسي للشباب؟

الخوارزميات مصممة لإبقاء المستخدمين على المنصة لأطول فترة ممكنة عبر مكافأة المحتوى المثير للمشاعر القوية مثل الغضب والانقسام. هذا يؤدي إلى تضخيم الآراء المتطرفة وتبسيط القضايا المعقدة، مما يشكل وعياً سياسياً قائماً على ردود الفعل العاطفية بدلاً من التحليل النقدي.

2. ما هو “النشاط التراخي” (Slacktivism)؟

هو مصطلح يصف المشاركة الرقمية منخفضة الجهد (مثل الإعجاب بمنشور أو مشاركته) التي تمنح المشارك شعوراً بالإنجاز السياسي دون أن تؤدي إلى تأثير حقيقي، وقد تقلل من الدافع للمشاركة المدنية الفعلية مثل التصويت أو العمل التطوعي.

3. ما المقصود بـ “العلاقة شبه الاجتماعية” مع المؤثرين السياسيين؟

هي علاقة عاطفية أحادية الجانب يشعر بها المتابع تجاه المؤثر، حيث يشعر بأنه يعرفه شخصياً ويثق به. هذا يجعل الولاء للشخص نفسه وليس لأفكاره أو سياساته، مما يسهل انتشار الشعبوية وتبسيط القضايا الهامة.

4. هل الحل هو مقاطعة الشباب لمنصات التواصل الاجتماعي؟

ليس بالضرورة. الحل الأكثر واقعية هو تعزيز “المواطنة الرقمية الناضجة” من خلال تعليم الشباب التفكير النقدي تجاه المحتوى الذي يستهلكونه، وفهم كيفية عمل الخوارزميات، وتشجيعهم على البحث الفعّال عن مصادر معلومات متنوعة وموثوقة.

شاركها.

منصة شاملة تقدم محتوى متنوعًا يجمع بين الأخبار الحديثة والمدونات التحليلية، بالإضافة إلى إحصائيات دقيقة، واختبارات تفاعلية، ومقاطع فيديو مبتكرة.

إعلان
Subscribe
Notify of
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
تعليقات داخلية
عرض كل التعليقات
إعلان
wpDiscuz
0
0
حابين نسمع رأيك، اترك تعليقك.x
()
x
Exit mobile version