في خطوة تاريخية تهدف إلى إعادة الثقة وإنهاء حقبة التضخم الجامح، تتجه سوريا نحو إصلاح نقدي شامل بالتعاون مع روسيا. فهل تنجح المهمة؟
لم يعد مشهد المواطن السوري وهو يحمل كيساً بلاستيكياً مليئاً بالأوراق النقدية لشراء أبسط احتياجاته اليومية غريباً. لقد تحولت المعاملات البسيطة إلى كابوس لوجستي يعكس مدى انهيار القوة الشرائية للعملة الوطنية. ولكن، يبدو أن هذه الحقبة تقترب من نهايتها، حيث تخطط سوريا لإجراء أكبر عملية إصلاح نقدي في تاريخها الحديث: طرح الليرة السورية الجديدة بعد حذف صفرين من قيمتها الحالية.
انهيار اقتصادي يفرض واقعاً جديداً
لفهم أهمية هذه الخطوة، يجب أولاً إدراك حجم الكارثة التي حلت بالليرة. فمنذ عام 2011، فقدت العملة السورية أكثر من 99% من قيمتها. الدولار الأمريكي الذي كان يساوي 50 ليرة فقط، أصبح اليوم يتطلب حوالي 10,000 ليرة لتصريفه. وبالتالي، لم يعد التضخم مجرد مصطلح اقتصادي، بل أصبح واقعاً يومياً يلتهم مدخرات السوريين ويجعل التخطيط المالي شبه مستحيل.
الفئات النقدية الحالية، وأكبرها ورقة الـ 5000 ليرة، أصبحت غير عملية على الإطلاق. وهذا الوضع لم يعقد حياة المواطنين فحسب، بل دفع بجزء ضخم من الكتلة النقدية، يُقدر بنحو 40 تريليون ليرة، إلى التداول خارج النظام المصرفي الرسمي، مما أفقد الدولة قدرتها على مراقبة السيولة وتوجيه الاقتصاد.
“عملية الليرة الجديدة”: التفاصيل والأهداف
وفقًا لمصادر مصرفية رفيعة، فإن الخطة التي يقودها مصرف سوريا المركزي واضحة المعالم وتستهدف تحقيق عدة أهداف متداخلة، اقتصادية وسياسية على حد سواء.
الأهداف الاقتصادية:
- تسهيل المعاملات: الهدف المباشر هو تبسيط الحسابات والمدفوعات اليومية. فبدلاً من دفع 10,000 ليرة، سيدفع المواطن 100 ليرة جديدة، مما يعيد للعملة هيبتها وسهولة استخدامها.
- استعادة الثقة: يمثل حذف الأصفار رسالة نفسية قوية للمواطنين والأسواق بأن الحكومة الجديدة جادة في تحقيق الاستقرار النقدي ومكافحة التضخم.
- إعادة السيولة للنظام المصرفي: ستجبر هذه الخطوة الأفراد والشركات على استبدال أموالهم القديمة بالجديدة، مما يعني عودة مليارات الليرات المكتنزة إلى البنوك، وبالتالي منح الحكومة قدرة أكبر على السيطرة على الكتلة النقدية.
أما عن التفاصيل اللوجستية، فقد تم الاتفاق مع شركة “جوزناك” الروسية الحكومية، التي تتمتع بخبرة طويلة في هذا المجال، لطباعة الأوراق النقدية الجديدة. ومن المقرر أن يتم الطرح الرسمي في الثامن من ديسمبر/كانون الأول، تزامناً مع الذكرى السنوية الأولى للإطاحة بنظام الأسد، في خطوة تحمل الكثير من الدلالات.
أكثر من مجرد خطوة اقتصادية: رمزية التغيير
لا يمكن فصل هذا القرار عن سياقه السياسي. فالأوراق النقدية الحالية من فئتي 1000 و2000 ليرة تحمل صوري حافظ وبشار الأسد، مما يجعلها رمزاً لحقبة امتدت لأكثر من خمسة عقود. إن سحب هذه الأوراق من التداول واستبدالها بأخرى جديدة تحمل رموزاً وطنية أو تاريخية سيمثل قطيعة رمزية حاسمة مع الماضي.
بالإضافة إلى ذلك، يأتي هذا الإصلاح النقدي في وقت ترفع فيه القيادة الجديدة شعار اقتصاد السوق الحر، وتشجع على استخدام العملات الأجنبية بعد أن كانت محظورة تمامًا. ومن خلال طرح الليرة السورية الجديدة، تأمل الحكومة في موازنة عملية “الدولرة” السريعة للاقتصاد ومنع حدوث أزمة سيولة في العملة المحلية.
بين التفاؤل الحذر والمخاوف المشروعة
في الشارع السوري، استُقبل الخبر بمزيج من الأمل والترقب. على وسائل التواصل الاجتماعي، عبر الكثيرون عن أملهم في أن تكون هذه الخطوة بداية حقيقية للتعافي الاقتصادي. كتب أحد المستخدمين: “أخيراً سنتخلص من الأرقام الفلكية ونشعر أن أموالنا لها قيمة”.
لكن على الجانب الآخر، هناك مخاوف حقيقية. الخبير الاقتصادي السوري البارز كرم شعار، حذر من أن عملية إعادة تقييم العملة قد تكون مربكة، خاصة لكبار السن وغير الملمين بالشؤون المالية. كما أشار إلى التكلفة الباهظة للعملية، التي قد تصل إلى مئات الملايين من الدولارات.
واقترح شعار بديلاً كان يمكن أن يحقق أهدافاً مشابهة بتكلفة أقل، وهو إصدار فئات نقدية أعلى (مثل 20,000 أو 50,000 ليرة). هذا الخيار كان سيسهل التعاملات النقدية دون الدخول في تعقيدات استبدال العملة بالكامل.
خطوة ضرورية ولكنها ليست كافية
إن قرار حذف الأصفار وطرح الليرة السورية الجديدة هو خطوة ضرورية ولا مفر منها. إنها بمثابة “إعادة تشغيل” نفسية للاقتصاد، وفرصة لبناء الثقة من جديد. ومع ذلك، يجب أن نكون واضحين: هذه الخطوة تعالج أعراض المرض، وليس المرض نفسه.
المرض الحقيقي هو ضعف الإنتاج، وانهيار البنية التحتية، وغياب الاستثمارات الأجنبية. إن لم تترافق عملية الإصلاح النقدي مع سياسات اقتصادية حقيقية وفعالة لتحفيز عجلة الإنتاج وجذب رؤوس الأموال، فإن الليرة الجديدة ستواجه نفس مصير القديمة، وستعود الأصفار للظهور مع مرور الوقت. إنها بداية جيدة، لكن الطريق لا يزال طويلاً وشاقاً.
المصدر: رويترز
أسئلة شائعة:
1. لماذا قررت سوريا تغيير عملتها الآن؟
القرار يهدف إلى مكافحة التضخم المفرط، وتسهيل المعاملات اليومية، واستعادة الثقة في الاقتصاد، بالإضافة إلى كونه خطوة رمزية لطي صفحة حكم عائلة الأسد.
2. كم صفراً سيتم حذفه من الليرة السورية؟
سيتم حذف صفرين. على سبيل المثال، ستصبح ورقة الـ 5,000 ليرة القديمة تعادل 50 ليرة في الليرة السورية الجديدة.
3. متى سيتم إطلاق العملة الجديدة؟
من المقرر أن يتم الطرح الرسمي في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2025.
4. من هي الجهة المسؤولة عن طباعة الأوراق النقدية الجديدة؟
شركة “جوزناك” الروسية الحكومية هي التي ستتولى مهمة طباعة العملة السورية الجديدة.
5. ماذا سيحدث للأوراق النقدية القديمة؟
سيكون هناك فترة انتقالية مدتها 12 شهراً، يُسمح خلالها بتداول الأوراق القديمة والجديدة معاً حتى 8 ديسمبر 2026، لإتاحة الوقت الكافي للجميع لاستبدال أموالهم.