هل يمكن لاقتصاد أن يزدهر بينما تحتضر شرايينه الطبيعية؟ قد يبدو هذا السؤال فلسفيًا، لكنه في الواقع يمثل جوهر التحدي الاقتصادي الأكبر في القرن الحادي والعشرين. في السابق، كنا ننظر إلى حماية البيئة كنوع من الرفاهية أو المسؤولية الأخلاقية. أما اليوم، فالأرقام تتحدث لغة مختلفة تمامًا. ففي بريطانيا، دق تقرير حديث ناقوس الخطر، محذرًا من أن الاقتصاد وفقدان التنوع البيولوجي مرتبطان بشكل كارثي، حيث قد يؤدي تجاهل الطبيعة إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 4.7%. هذا الرقم ليس مجرد إنذار لبريطانيا، بل هو تحذير مبكر لكل دول العالم، بما في ذلك منطقتنا العربية، بأن محركات النمو الاقتصادي التقليدية أصبحت على وشك الانهيار.
الخطر الاقتصادي الخفي لفقدان الطبيعة
عندما نتحدث عن فقدان الطبيعة، قد تتبادر إلى الأذهان صور الدببة القطبية أو الغابات المطيرة البعيدة. لكن الحقيقة أن التأثير أقرب وأعمق مما نتصور. إن تدهور الغابات، وجفاف الأراضي الرطبة، وموت الشعاب المرجانية، واختفاء الحشرات الملقحة، كلها عوامل تؤثر بشكل مباشر على اقتصاداتنا.
فكر في الأمر بهذه الطريقة:
- سلاسل الإمداد: تعتمد أكثر من نصف الشركات العالمية الكبرى على موارد طبيعية أصبحت مهددة. على سبيل المثال، شركات الأدوية التي تعتمد على نباتات نادرة، أو شركات التكنولوجيا التي تحتاج إلى معادن يتم استخراجها بطرق تضر بالبيئة.
- الزراعة والأمن الغذائي: يؤدي تدهور التربة ونقص الملقحات إلى انخفاض إنتاجية المحاصيل، مما يهدد الأمن الغذائي ويرفع الأسعار على المستهلكين. وبالتالي، تتأثر الصناعات الغذائية بشكل مباشر.
- السياحة: تعتمد العديد من الدول، ومنها دول في منطقتنا، على جمالها الطبيعي لجذب السياح. موت الشعاب المرجانية في البحر الأحمر أو تلوث الشواطئ المتوسطية يعني خسارة مليارات الدولارات من عائدات السياحة.
- الصحة: توفر النظم البيئية الصحية هواءً وماءً نقيين، مما يقلل من تكاليف الرعاية الصحية. على العكس من ذلك، يؤدي التلوث إلى زيادة الأمراض التنفسية وغيرها، مما يضع عبئًا هائلاً على الميزانيات الحكومية.
إن خسارة 4.7% من الناتج المحلي ليست مجرد رقم، بل هي وظائف تُفقد، واستثمارات تتراجع، ومستوى معيشة ينخفض. ببساطة، لم تعد الطبيعة رفاهية، بل أصبحت ركيزة أساسية للاستقرار الاقتصادي.
المسارات الإيجابية للطبيعة: كيف نحول الأزمة إلى فرصة؟
لحسن الحظ، لا يزال هناك طريق للخروج من هذا النفق. الحل يكمن في مفهوم يُعرف بـ”المسارات الإيجابية للطبيعة” (Nature-Positive Pathways). الفكرة بسيطة في جوهرها: بدلًا من استنزاف الموارد الطبيعية لتحقيق نمو قصير الأجل، يجب أن نتبنى استراتيجيات تعيد إحياء التنوع البيولوجي وتجعله جزءًا من المعادلة الاقتصادية.
هذا ليس مجرد حلم طوباوي، بل هو نهج عملي له تطبيقات ملموسة:
- الزراعة التجديدية (Regenerative Agriculture): بدلاً من الزراعة المكثفة التي تستنزف التربة، تركز هذه الممارسات على تحسين صحة التربة، مما يزيد من الإنتاجية على المدى الطويل ويقلل من الحاجة إلى الأسمدة الكيماوية.
- الاقتصاد الدائري (Circular Economy): تصميم منتجات قابلة لإعادة التدوير والاستخدام مرارًا وتكرارًا، مما يقلل من النفايات والضغط على الموارد الطبيعية الأولية.
- الحلول المعتمدة على الطبيعة (Nature-based Solutions): استخدام النظم البيئية لحل تحديات مجتمعية. على سبيل المثال، زراعة أشجار المانجروف لحماية السواحل من التآكل بدلاً من بناء جدران خرسانية باهظة الثمن، أو إنشاء حدائق حضرية لامتصاص مياه الأمطار وتخفيف الضغط على شبكات الصرف الصحي.
إن تبني هذه المسارات لا يحمي البيئة فحسب، بل يخلق فوائد اقتصادية مباشرة، مثل زيادة الوظائف الخضراء في قطاعات الطاقة المتجددة وإدارة النفايات، وتعزيز الأمن الغذائي، وخفض المخاطر المالية المرتبطة بالكوارث الطبيعية.
دور القطاع الخاص: من المشكلة إلى الحل
لا يمكن للحكومات أن تقود هذا التحول بمفردها. فالقطاع الخاص، الذي كان يُعتبر تاريخيًا جزءًا من المشكلة، يجب أن يصبح الآن جزءًا أساسيًا من الحل. لماذا؟ لأن استمرار تجاهل الاقتصاد وفقدان التنوع البيولوجي لم يعد خيارًا استراتيجيًا. الشركات التي تفشل في التكيف ستواجه مخاطر تشغيلية ومالية وسمعية هائلة.
في المقابل، الشركات التي تتبنى الاستدامة البيئية تفتح لنفسها أبوابًا جديدة للنمو. لقد رأينا بالفعل شركات عالمية مثل “IKEA” و”Unilever” تستثمر مليارات الدولارات في سلاسل إمداد مستدامة ونماذج إنتاج خضراء، ليس فقط من باب المسؤولية الاجتماعية، بل لأنها أدركت أن هذا هو مستقبل الربحية.
ومع ذلك، يجب الحذر من ظاهرة “الغسل الأخضر” (Greenwashing)، حيث تدّعي بعض الشركات أنها صديقة للبيئة لأغراض تسويقية فقط، دون إجراء تغييرات حقيقية في عملياتها. الشفافية والمساءلة هما مفتاح بناء الثقة وضمان أن يكون التحول حقيقيًا ومستدامًا.
تجارب عالمية ملهمة من بريطانيا إلى الشرق الأوسط
كانت بريطانيا سباقة في طرح تقديرات اقتصادية واضحة لتكلفة فقدان الطبيعة، مما دفع النقاش من الإطار البيئي إلى قلب السياسات المالية. لكنها ليست وحدها. فالاتحاد الأوروبي، من خلال “الصفقة الخضراء الأوروبية”، يخصص مئات المليارات من اليورو لتحويل اقتصاده ليصبح محايدًا مناخيًا ومحافظًا على التنوع الحيوي.
وفي منطقتنا العربية، هناك بوادر واعدة. “مبادرة السعودية الخضراء” التي تهدف لزراعة مليارات الأشجار، واستثمارات الإمارات في زراعة غابات المانجروف والطاقة المتجددة، كلها خطوات في الاتجاه الصحيح. كما أن تركيا، بموقعها الجغرافي الفريد، بدأت تدرك أهمية التحول الأخضر في قطاعات السياحة والطاقة والزراعة لضمان نمو مستدام. هذه التجارب تثبت أن التحول ليس ممكنًا فحسب، بل هو ضروري للمنافسة في الاقتصاد العالمي الجديد.
نظرة إلى المستقبل: مفترق طرق حاسم
نحن نقف اليوم عند مفترق طرق. إذا واصلنا السير في نفس المسار، فإن التوقعات تشير إلى أن الاقتصاد العالمي قد يخسر تريليونات الدولارات بحلول عام 2050 بسبب تدهور النظم البيئية. ستصبح الكوارث الطبيعية أكثر تواترًا وتكلفة، وستواجه سلاسل الإمداد اضطرابات مستمرة.
أما إذا اخترنا المسار الآخر، مسار الطبيعة الإيجابية، فيمكننا تحويل هذه الأزمة إلى أكبر فرصة للنمو في هذا القرن. يمكننا بناء اقتصادات أكثر مرونة وعدالة، توفر وظائف لائقة وتحسن نوعية الحياة للجميع. التغيير يبدأ من الحكومات التي تضع السياسات الصحيحة، والشركات التي تبتكر وتستثمر بمسؤولية، والأفراد الذين يتخذون خيارات واعية في استهلاكهم اليومي.
خاتمة: استثمار في بقائنا
في النهاية، المعادلة بسيطة وواضحة: فقدان الطبيعة يساوي فقدان الاقتصاد. إن الربط بين الاقتصاد وفقدان التنوع البيولوجي لم يعد نظرية، بل حقيقة مدعومة بالأرقام. الحفاظ على كوكبنا ليس تكلفة إضافية، بل هو أذكى استثمار يمكن أن نقوم به في مستقبلنا الاقتصادي والاجتماعي. حان الوقت لبناء اقتصاد يحيا بالطبيعة، لا على أنقاضها.
المصدر:
يستند التحليل إلى تقارير ودراسات عالمية حول العلاقة بين الاقتصاد والطبيعة، أبرزها تقرير “Green Finance Institute” في بريطانيا
أسئلة شائعة:
1. ما هو الخطر الاقتصادي المباشر لفقدان التنوع البيولوجي؟
الخطر المباشر يتمثل في احتمالية انكماش الناتج المحلي الإجمالي العالمي. تقرير بريطاني قدر هذه الخسارة المحتملة بنسبة 4.7%، وذلك نتيجة لتأثر قطاعات حيوية مثل الزراعة، والسياحة، ومصايد الأسماك، وتعطل سلاسل الإمداد التي تعتمد على الموارد الطبيعية.
2. ما هي “المسارات الإيجابية للطبيعة” (Nature-Positive Pathways)؟
هي استراتيجيات ونماذج عمل تهدف إلى وقف وعكس فقدان التنوع البيولوجي بحلول عام 2030. بدلاً من مجرد تقليل الضرر، تسعى هذه المسارات إلى استعادة صحة النظم البيئية مع تحقيق نمو اقتصادي مستدام، مثل الزراعة التجديدية والاقتصاد الدائري.
3. كيف يمكن للقطاع الخاص المساهمة في الحل؟
يمكن للقطاع الخاص أن يساهم عبر تبني نماذج أعمال مستدامة، والاستثمار في التكنولوجيا الخضراء، ودمج المخاطر البيئية في استراتيجياته المالية. هذا التحول لا يقلل من المخاطر فحسب، بل يفتح أسواقًا جديدة وفرصًا للابتكار والربحية.
4. هل هذا التحدي يقتصر على الدول الغربية فقط؟
لا، إنه تحدٍ عالمي. الدول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا معرضة بشكل خاص لتأثيرات تدهور الأراضي والموارد المائية، مما يجعل تبني نماذج اقتصادية مستدامة ضرورة حتمية لضمان أمنها الغذائي والمائي واستقرارها الاقتصادي.