في قلب العالم الرقمي، وادي السيليكون، حيث يتم قياس كل شيء وتحسينه، من سرعة الكود إلى كفاءة الاجتماعات، ظهر سباق جديد أكثر جرأة وحميمية من أي وقت مضى. إنه سباق لا يستهدف الحواسيب الفائقة أو الخوارزميات الثورية، بل اللبنة الأساسية للوجود البشري نفسه: الحمض النووي لأطفالنا. لقد تحول الهوس بالأداء الأمثل إلى أحدث وأخطر مشاريعه: السعي نحو إنجاب أطفال عباقرة حسب الطلب.
من الفكرة إلى الجنين: كيف تعمل تقنية “تصميم الأطفال”؟
لم يعد الأمر مجرد خيال علمي. فقد بدأت شركات ناشئة مثل “نيوكليوس جينوميكس” (Nucleus Genomics) و”هيراسايت” (Herasight) بتقديم خدمات كانت حتى وقت قريب حبيسة الروايات الديستوبية. العملية، المعروفة علميًا باسم “الاختبار الجيني قبل الزرع للسمات متعددة الجينات” (PGT-P)، تبدو مباشرة بشكل مخادع:
- يخضع الزوجان لعملية تلقيح صناعي (IVF) لإنتاج عدة أجنة.
- قبل زرع أي جنين في الرحم، يتم أخذ خزعة منه لتحليل الحمض النووي.
- تقوم الشركات بتحليل جينوم كل جنين لإنشاء “بطاقة تقرير” جينية، تتنبأ باحتمالية تطور سمات معينة، أبرزها وأكثرها طلبًا: الذكاء.
- يختار الآباء الجنين الذي يحمل “الدرجة” الأعلى في مؤشر الذكاء المتوقع ليتم زرعه.
هذه الخدمة ليست رخيصة، فهي استثمار في “التفوق الجيني” يتراوح سعره بين 6 آلاف دولار وقد يصل إلى 50 ألف دولار، وهو مبلغ يدفعه بسرور بعض من أغنى وألمع العقول في عالم التكنولوجيا.
لماذا هذا الهوس؟ دوافع تمزج بين الغرور والخوف
لفهم هذا التوجه، يجب الغوص في عقلية وادي السيليكون الفريدة. هناك دافعان رئيسيان، أحدهما معلن والآخر أكثر غرابة.
1. عبادة معدل الذكاء والإيمان بالتفوق الجيني
الدافع الأول متجذر في ثقافة الجدارة (Meritocracy) التي يعتنقها عمالقة التكنولوجيا. يرى العديد من هؤلاء الرواد أن نجاحهم الباهر ليس مجرد نتاج للعمل الجاد أو الحظ، بل هو انعكاس مباشر لقدراتهم الفكرية الفطرية. وكما يوضح ساشا جوسيف، عالم الإحصاء الجيني في كلية الطب بجامعة هارفارد: “لديهم تصور بأنهم أذكياء وناجحون، وأن ذلك بفضل جيناتهم الجيدة”. الآن، يعتقدون أنهم وجدوا الأداة لتكرار هذا النجاح في أطفالهم، ومنحهم أفضلية جينية منذ البداية. هذا الهوس يتجاوز المختبرات ليصل إلى الحياة الاجتماعية، حيث تدفع خبيرة التوفيق بين الأزواج جينيفر دونيلي بأن عملائها من الرؤساء التنفيذيين يطلبون تحديدًا شركاء من خريجي جامعات النخبة بهدف إنجاب أطفال عباقرة.
2. “العقلانيون” وإنقاذ العالم من الذكاء الاصطناعي
الدافع الثاني، الأقل شيوعًا ولكنه أكثر إثارة للقلق، يأتي من طائفة من مفكري وادي السيليكون يُعرفون بـ “العقلانيين”. هؤلاء، ومن بينهم عالم الرياضيات تسفي بنسون-تيلسن، أمضوا سنوات في محاولة حل معضلة “أمان الذكاء الاصطناعي” – أي كيفية ضمان ألا تنقلب علينا إبداعاتنا فائقة الذكاء. وبعد أن وصلوا إلى قناعة بأن إيقاف تطور الذكاء الاصطناعي أمر مستحيل، توصلوا إلى حل جذري: إذا لم نتمكن من إبطاء الآلة، فعلينا تسريع تطور الإنسان.
وفقًا لهذه النظرة، فإن إحدى أفضل الطرق لضمان تطوير ذكاء اصطناعي آمن هي أن يكون مطوروه من البشر الأكثر ذكاءً. إنها محاولة لـ تحسين النسل ليس بدافع العنصرية أو الطبقية، بل كاستراتيجية بقاء للبشرية في مواجهة تهديد وجودي صنعته بنفسها.
وهم السيطرة وأشباح الماضي
بصفتي متابعًا للتكنولوجيا وتأثيراتها المجتمعية، أرى أن هذا التوجه يمثل ذروة الغطرسة البشرية وقمة السذاجة في آن واحد. إنه وهم السيطرة الكاملة على أكثر العمليات الإنسانية تعقيدًا وجمالًا.
أولًا، العلم نفسه لا يدعم هذه الضجة. كما يشير الخبراء، فإن القدرة التنبؤية لهذه الاختبارات على تحديد معدل الذكاء لا تزال ضعيفة للغاية. يقول شاي كارمي، الأستاذ المشارك في الجامعة العبرية، إن النماذج الحالية تفسر فقط 5% إلى 10% من الفروق في القدرات المعرفية. في أفضل الأحوال، قد يمنح اختيار الأجنة زيادة بمعدل ثلاث إلى أربع نقاط في معدل الذكاء، وهذا “لن يجعل طفلك عبقريًا”. الذكاء سمة معقدة للغاية تتأثر بالبيئة، التعليم، التغذية، والحب، أكثر بكثير من أي درجة جينية.
ثانيًا، وهو الأهم، أن هذا الطريق محفوف بأشباح الماضي المظلم. لا يمكن تجاهل الصدى المخيف لحركة “تحسين النسل” (Eugenics) التي سعت في أوائل القرن العشرين إلى هندسة المجتمع من خلال التحكم في التكاثر. يحذر هانك غريلي، مدير مركز القانون والعلوم البيولوجية في جامعة ستانفورد، قائلاً: “إنه مخطط خيال علمي رائع: الأغنياء يخلقون طبقة عليا جينية تسيطر على كل شيء، ونصبح نحن البقية من عامة الشعب”.
إننا نخاطر بخلق شكل جديد من أشكال عدم المساواة، ليس قائمًا على الثروة أو التعليم، بل على الشفرة الجينية نفسها. مجتمع من “المُحسَّنين” و”الطبيعيين”، مما يعمق الانقسامات الاجتماعية بطريقة قد يستحيل جسرها.
ردود الفعل: بين الترحيب الحذر والإدانة الصريحة
لم يمر هذا التوجه مرور الكرام. فبينما تفاعل إيلون ماسك مع الخبر بكلمة “رائع” (Cool)، أعرب مجتمع الأخلاقيات الحيوية عن قلقه العميق. النقاش يدور حول أسئلة جوهرية: هل من العدل أن تكون هذه التقنية متاحة فقط للأثرياء؟ ومن يقرر ما هي السمات “المرغوبة”؟ وماذا عن العواقب غير المقصودة لاختيار سمة على حساب أخرى؟
في النهاية، يقف مجتمعنا عند مفترق طرق. فهل هذه التقنية هي الخطوة التالية في تطورنا، أداة تمنح الآباء مزيدًا من الخيارات؟ أم أنها صندوق باندورا الذي سيطلق العنان لطبقية جينية وتقويض لفكرة الإنسانية المشتركة؟ الإجابة ليست بسيطة، ولكن الحوار حولها أصبح ضرورة ملحة قبل أن يقرر وادي السيليكون مستقبلنا نيابة عنا.
أسئلة متداولة حول موضوع إنجاب أطفال عباقرة
1. ما هي تقنية اختيار الأجنة حسب الذكاء؟
هي عملية تستخدم التلقيح الصناعي (IVF) والفحص الجيني المتقدم (PGT-P) لتحليل الحمض النووي للأجنة وتقدير مؤشرات الذكاء لديها، مما يسمح للآباء باختيار الجنين ذي “الدرجة” الأعلى قبل زراعته.
2. كم تبلغ تكلفة هذه الخدمة؟
تتراوح التكلفة بشكل كبير حسب الشركة المقدمة للخدمة، حيث تبدأ من حوالي 6,000 دولار أمريكي وقد تصل إلى 50,000 دولار أمريكي.
3. ما هي الدوافع الرئيسية وراء هذا التوجه في وادي السيليكون؟
هناك دافعان أساسيان: الأول هو إيمان نخب التكنولوجيا بأن نجاحهم وراثي ورغبتهم في منح أطفالهم “أفضلية جينية”. والثاني هو اعتقاد مجموعة من “العقلانيين” بأن إنجاب بشر أكثر ذكاءً ضروري للتحكم في الذكاء الاصطناعي المتقدم في المستقبل.
4. هل هذه التقنية دقيقة في التنبؤ بالذكاء؟
لا، يشير الخبراء إلى أن دقتها الحالية منخفضة جدًا. يمكن للنماذج الجينية الحالية تفسير جزء صغير فقط (5-10%) من الفروق في القدرات المعرفية، وأي زيادة في معدل الذكاء تكون طفيفة وغير مضمونة.
5. ما هي أبرز المخاوف الأخلاقية المتعلقة بهذه التقنية؟
المخاوف الرئيسية تشمل إحياء أفكار “تحسين النسل” (Eugenics)، وخلق فجوة طبقية جينية بين الأغنياء والفقراء، والآثار النفسية على الأطفال “المصممين”، بالإضافة إلى تقليص قيمة التنوع البشري الطبيعي.
المصدر:
تم الاعتماد على تقرير أولي من “وول ستريت جورنال” وتوسيعه بمعلومات وآراء خبراء من مصادر متعددة.



