إعلان

في ليلة هادئة، تحولت رحلة طيران روتينية تابعة لشركة Air Corsica من باريس إلى جزيرة كورسيكا إلى كابوس صامت. فبدلاً من الاستعداد لهبوط سلس، وجد الطيار نفسه يدور بطائرته لأكثر من ساعة في سماء مظلمة فوق مطار أجاكسيو. السبب لم يكن عطلاً فنيًا أو سوءًا في الأحوال الجوية، بل كان صمتًا مطبقًا من برج المراقبة، حيث كان المراقب الجوي الوحيد المناوب قد غلبه النعاس.

كان المدرج غير مضاء، والنداءات اللاسلكية المتكررة من قمرة القيادة بقيت دون إجابة. هذا الموقف، الذي وصفه قائد الطائرة المخضرم بأنه لم يواجهه طوال مسيرته، يسلط الضوء على حقيقة مقلقة: النظام الجوي العالمي، بكل تقنياته المتقدمة، لا يزال يعتمد بشكل حاسم على يقظة الإنسان. ورغم أن الحادثة انتهت بسلام بعد تدخل فرق الطوارئ وإيقاظ المراقب، إلا أنها كشفت عن ثغرة خطيرة في جدار سلامة الطيران: إرهاق المراقبين الجويين.

ليست حادثة معزولة: إحصائيات مقلقة وظاهرة عالمية

ما حدث في أجاكسيو ليس مجرد خطأ فردي، بل هو عرض لمرض مزمن يصيب قطاع المراقبة الجوية العالمي. وفقًا للاتحاد الدولي لجمعيات مراقبي الحركة الجوية (IFATCA)، يؤدي النقص الحاد والمستمر في أعداد المراقبين إلى ضغط هائل على العاملين الحاليين، مما يسبب “أعراضًا واضحة” من الإرهاق الشديد وتراجع اليقظة.

  • مثال عملي: في لبنان، وصل الوضع إلى درجة تحذير المراقبين من أن كل موظف يقوم بعمل أربعة أشخاص، مسجلاً أكثر من 300 ساعة عمل شهريًا، وهو رقم “غير إنساني” ويعرض سلامة الأجواء للخطر المباشر.
  • حوادث مشابهة: شهد مطار ووهان في الصين حادثة مماثلة عندما غفا مراقبان جويان، مما أجبر طائرة على تأخير هبوطها. وفي الولايات المتحدة، كشف تحقيق في حادث تصادم أن المراقب المسؤول كان يؤدي مهام شخصين في وقت واحد بسبب نقص الموظفين.

هذه الأمثلة تؤكد أننا أمام نمط متكرر، حيث تعمل الحكومات وشركات الطيران على خفض التكاليف التشغيلية، غالبًا على حساب العنصر البشري الذي يمثل خط الدفاع الأخير عن سلامة الركاب.

تحليل أعمق: لماذا يعتبر الإرهاق أخطر من الخطأ الفني؟

عندما نتحدث عن سلامة الطيران، غالبًا ما تذهب الأذهان إلى صيانة المحركات وسلامة هياكل الطائرات. لكن العامل البشري يظل السبب الأول للحوادث. إرهاق المراقب الجوي لا يقل خطورة عن وجود صدع في جناح طائرة، بل قد يكون أسوأ.

إعلان
  1. تأثير فسيولوجي: يؤدي الحرمان من النوم إلى ضعف شديد في الوظائف الإدراكية، مثل بطء رد الفعل، ضعف القدرة على اتخاذ قرارات سريعة ومعقدة، وتشتت الانتباه. بالنسبة لمراقب جوي مسؤول عن عشرات الطائرات في آن واحد، فإن تأخيرًا في رد الفعل لثوانٍ معدودة قد يعني الفرق بين الحياة والموت.
  2. الفشل النظامي: في حادثة أجاكسيو، أظهرت الفحوصات أن المراقب لم يكن تحت تأثير الكحول أو المخدرات. هذا دليل قاطع على أن المشكلة لم تكن سوء سلوك فردي، بل نتيجة مباشرة لنظام سمح بوجود شخص واحد فقط في مناوبة ليلية في برج مراقبة لمطار حيوي، وهو ما يعتبر مخاطرة غير مقبولة.
  3. الضغط النفسي: يعمل المراقبون في بيئة ذات ضغط نفسي هائل، حيث لا مجال للخطأ. ومع تزايد ضغط العمل بسبب نقص الموظفين، يتراكم الإرهاق الجسدي والذهني، مما يجعل وقوع مثل هذه الحوادث مسألة وقت لا أكثر.

نحو سماء أكثر أمانًا: الحلول المقترحة لوقف الكارثة

إن تجاهل ظاهرة إرهاق المراقبين الجويين هو بمثابة اللعب بأرواح المسافرين. لذلك، يجب التحرك فورًا على عدة محاور:

  • إنهاء المناوبات الفردية: يجب وضع تشريعات دولية تمنع وجود مراقب جوي واحد فقط في أي برج مراقبة، خاصة خلال المناوبات الليلية الطويلة.
  • زيادة الاستثمار في الكوادر البشرية: لا بد من توظيف وتدريب المزيد من المراقبين الجويين لضمان وجود عدد كافٍ لتغطية الجداول الزمنية بشكل آمن وصحي، مع الالتزام بساعات عمل لا تتجاوز الحدود الموصى بها عالميًا.
  • تطبيق تقنيات مساندة: يمكن استخدام أنظمة إنذار ذكية تراقب يقظة المراقب (Alertness Monitoring Systems)، والتي يمكنها إطلاق تحذير في حال عدم استجابته لفترة معينة، وتنبيه السلطات المسؤولة بشكل فوري.
  • تحسين ثقافة العمل: يجب تشجيع المراقبين على الإبلاغ عن حالات الإرهاق دون خوف من العقاب، واعتبارها مشكلة تتعلق بالسلامة العامة وليس تقصيرًا شخصيًا.

خلاصة: إن تجاهل الإرهاق الذي يعاني منه المراقبون الجويون بحجة خفض التكاليف هو مقامرة غير محسوبة بأرواح آلاف المسافرين يوميًا. لذا، يجب أن تتجاوز الاستجابة مجرد التحقيق في حادثة فردية، لتتحول إلى مراجعة شاملة لسياسات التوظيف وساعات العمل عالميًا. فالسماء الآمنة لا تُبنى فقط بالتكنولوجيا المتقدمة، بل تُصان بيقظة وسلامة الأفراد الذين نأتمنهم على حياتنا من خلف الشاشات.


أسئلة شائعة

1. ما الذي حدث بالضبط في مطار أجاكسيو؟

اضطرت طائرة قادمة من باريس للدوران لأكثر من ساعة لأن المراقب الجوي الوحيد في برج المراقبة كان نائمًا، مما أدى إلى عدم إضاءة المدرج وانقطاع الاتصال.

2. هل تعتبر حوادث نوم المراقبين الجويين شائعة؟

للأسف، هي ليست نادرة كما يُعتقد. تم تسجيل حوادث مماثلة في دول مختلفة مثل الصين والولايات المتحدة، وهي غالبًا ما ترتبط بظروف العمل المجهدة ونقص الموظفين.

3. ما هي الأسباب الرئيسية لإرهاق المراقبين الجويين؟

الأسباب الرئيسية تشمل ساعات العمل الطويلة، المناوبات الليلية، النقص الحاد في عدد الموظفين الذي يجبر كل فرد على أداء مهام مضاعفة، والضغط النفسي الهائل المصاحب للوظيفة.

4. ما هي الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتحسين سلامة المراقبة الجوية؟

الحلول تتضمن زيادة عدد المراقبين، منع المناوبات الفردية في الأبراج، تطبيق تقنيات لمراقبة اليقظة، وتحسين ظروف العمل لتقليل الإجهاد والإرهاق.

شاركها.

منصة شاملة تقدم محتوى متنوعًا يجمع بين الأخبار الحديثة والمدونات التحليلية، بالإضافة إلى إحصائيات دقيقة، واختبارات تفاعلية، ومقاطع فيديو مبتكرة.

إعلان
Subscribe
Notify of
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
تعليقات داخلية
عرض كل التعليقات
إعلان
wpDiscuz
0
0
حابين نسمع رأيك، اترك تعليقك.x
()
x
Exit mobile version