في عالمٍ تقوده الخوارزميات وتتزايد فيه قدرات الذكاء الاصطناعي يومًا بعد يوم، تطلّ تقنية جديدة تُعرف باسم ديب سيك (DeepSeek) لتثير موجة من الجدل حول الأمان والخصوصية. لم تعُد هذه القضايا مجرّد تكهّنات نظريّة؛ فقد تحوّلت إلى واقع يوميّ يضعنا أمام تحديات معقّدة تتشابك فيها الابتكارات التقنية مع مصالح الشركات والحكومات، وأحيانًا مع أطراف يصعب تحديدها.
صعود ديب سيك وتأثيره في ساحة الذكاء الاصطناعي
ظهر ديب سيك بوصفه إنجازًا تقنيًا يلفت الأنظار، حيث سارع الخبراء إلى مقارنته بمنصّات راسخة مثل شات جي بي تي. وفي حين أنّ التركيز غالبًا ما ينصبّ على أداء النماذج الذكية، فإنّ ما يثير القلق الحقيقي يتعلّق بالخصوصية والأمان. فالتساؤل الأبرز اليوم هو: هل سيتحوّل ديب سيك إلى أداة مراقبة وتحكّم في بيانات المستخدمين، أم أنّه مجرّد تقنية ثوريّة مبشّرة بمستقبل أفضل؟
ديب سيك بمواجهة شات جي بي تي: منافسة تتجاوز الأداء
عندما يتنافس نظام جديد مثل ديب سيك مع نموذج عملاق مثل شات جي بي تي، فإنّ القياس يتعدّى السرعة والدقّة في الإجابات. إذ بات الأمن السيبراني والخصوصية محور المقارنة. وبينما تناقش الولايات المتحدة حظر تطبيقات مثل تيك توك بسبب مخاوف تتعلّق بجمع البيانات، يطرح ديب سيك تساؤلات مشابهة، خصوصًا مع تقديمه خطط تسعير منخفضة بشكل لافت. فهل يدفع المستخدمون سعرًا مختلفًا عن المال التقليدي، كأن يكون هذا السعر هو بياناتهم وخصوصيّتهم؟
هل يجدر الوثوق بسياسة الخصوصية لدى ديب سيك؟
إنّ أبرز ما يثير المخاوف حيال ديب سيك هو سياسة الخصوصية التي قد تبدو للوهلة الأولى واضحة، لكنّ تفاصيلها تثير علامات استفهام حقيقية. إذ تنصّ هذه السياسة على جمع المدخلات النصيّة أو الصوتيّة التي يقدّمها المستخدمون، بالإضافة إلى البيانات التقنيّة مثل عناوين IP وأنماط ضغط المفاتيح. والأدهى من ذلك أنّ التخزين يتمّ على خوادم تقع في الصين، ما يفتح الباب أمام جدل واسع حول مصير هذه المعلومات وكيفيّة استخدامها لاحقًا.
وتؤكّد بعض بنود هذه السياسة أنّ بيانات المستخدم قد تُستغلّ لأغراض الإعلانات وتحسين الخدمة أو حتى لتلبية التزامات قانونية، دون تحديد إطار زمني واضح لحذف البيانات نهائيًا. هذا الغموض يزيد من احتمال تعرّض المستخدمين لانتهاكات طويلة الأمد، خاصّة عندما لا تكون هناك ضمانات صريحة تحمي بياناتهم على المدى البعيد.
أنشطة مثيرة للشكوك: هل هناك روابط مع السلطات الصينية؟
في الفترة الأخيرة، رصد بعض مستخدمي منصّة “إكس” (تويتر سابقًا) تصرّفات غير معتادة عند مناقشة مواضيع سياسية أو حسّاسة على ديب سيك. وعلى الرغم من عدم وجود دليل قاطع يثبت تورّط المنصّة في ممارسات تنتهك الخصوصية لصالح أي جهة حكومية، فإنّ تلك المؤشرات كافية لإطلاق العنان لموجة من القلق حول مصير بيانات المستخدمين. يشير هذا الوضع إلى سيناريو مشابه لما حدث مع فضيحة كامبريدج أناليتيكا، حيث أسيء استخدام بيانات الملايين لأغراض غير مشروعة.
موجة هجمات إلكترونية واختبارات أمنية مقلقة
لم يقتصر الأمر على القلق النظري، فقد واجهت ديب سيك بالفعل هجومًا إلكترونيًا واسعًا تسبّب في تعطيل الخدمة لفترة، ما دفعها إلى تقييد التسجيلات وإجراءات الحماية. وزاد الأمر سوءًا حين كشف تقرير مشترك بين باحثين من شركة سيسكو وجامعة بنسلفانيا عن ضعف كبير في نموذج “R1” التابع لديب سيك، إذ بلغت نسبة نجاح الهجمات عليه 100%، وهو ما يشير إلى خلل في آليات التصدي للمحتوى الضارّ.
من جهتها، بدأت إيطاليا تحقيقًا رسميًا حول احتمال تعرّض بيانات ملايين المستخدمين للانتهاك، فيما أعلنت شركة “كيلا” للأمن السيبراني عن تمكّنها من اختراق ديب سيك مستخدمة تقنيات قديمة نسبيًا. كلّ هذه المؤشرات تعزّز المخاوف من وجود ثغرات أمنيّة قد لا يتمّ إصلاحها في وقت قريب.
آراء الخبراء: مخاوف من التحيّز والسيطرة على المحتوى
أشار أدريانوس وارمينهوفن، خبير الأمن السيبراني لدى NordVPN، في حوار مع موقع TechRadar إلى أنّ ديب سيك يرفض أحيانًا التطرّق لمواضيع سياسيّة معيّنة، ما يثير تساؤلات حول تحيّزات مخفيّة أو تدخلات خارجيّة في سياسات النشر والمحتوى. وتضيف خبيرة الحقوق الرقميّة لورين هندري بارسونز أنّ سياسة الخصوصية تتيح جمع بيانات حساسة مثل ضغطات المفاتيح ودمجها مع معرفات الهواتف المحمولة والكوكيز وغيرها، ممّا قد يفتح المجال أمام تتبّع عميق للمستخدمين.
هل يمكن لشبكات VPN حمايتك من ديب سيك؟
يرى كثير من المستخدمين أنّ استعمال شبكات VPN قد يكون كافيًا لإخفاء عناوين IP وحماية الخصوصية عمومًا، لكنّ المشكلة تكمن في أنّ ديب سيك قد يجمع بيانات تفصيلية لا تقتصر على الموقع الجغرافي للمستخدم. فإذا منحت المنصة صلاحية الوصول إلى معلوماتك الشخصية أو سجلاتك الصوتية والنصيّة، فلن يفيدك إخفاء عنوان IP كثيرًا؛ إذ تبقى هناك قنوات أخرى لجمع بياناتك وتعقّبك.
بيربلكستي: هل هو البديل الآمن؟
مع تصاعد الشكوك حول ديب سيك، لجأ البعض إلى استخدام بدائل مثل بيربلكستي (Perplexity). لكن الحقيقة أنّ هذه المنصّة لا تقدّم ضمانات خصوصية أكبر بكثير؛ إذ تتشابه سياستها مع ديب سيك في جوانب جمع البيانات ومشاركتها مع طرف ثالث. وكما أنّ مخاوف الدول الغربية من ديب سيك توازيها مخاوف دول أخرى من نماذج أمريكية مثل بيربلكستي، فإنّ اللعبة تبدو متبادلة في عالم تُشكّل فيه البيانات القوة الجديدة.
الخلاصة: هل تصبح بياناتك الثمن الحقيقي؟
حتى هذه اللحظة، لم تظهر أدلة دامغة على ارتكاب ديب سيك أي انتهاك ضخم لبيانات المستخدمين، لكنّ الغموض الذي يكتنف كيفية التعامل مع المعلومات الشخصية، بالإضافة إلى الثغرات الأمنيّة المكتشفة مؤخرًا، يجعلان الحذر واجبًا. إنّنا نعيش في عصر تُعدّ فيه البيانات النفَط الجديد، وغالبًا ما يدفع المستخدم ثمنًا أغلى بكثير من مجرد رسوم مالية.
من الأهمية بمكان أن تقرأ سياسة الخصوصية بدقّة، وأن تستعين بأدوات مختصة لحذف بياناتك من وسطاء المعلومات في حال كنت قلقًا على خصوصيتك. أمّا إذا كان عرض ديب سيك المغري يلفت انتباهك، فتذكّر دومًا أنّ البيانات التي تشاركها قد تكون هي البوابة الخلفية لمخاطر مستقبليّة لا تُحمد عقباها.
هل ستفكّر مرتين قبل استخدام ديب سيك على جهازك، في ظلّ كل هذه التساؤلات حول الخصوصية والأمان؟
[…] يقتصر تأثير ديب سيك على المنافسين فقط، بل سارعت عدة شركات صينية وحكومية […]