الواحدة صباحًا. الغرفة مظلمة وهادئة، لكن عقلك لا يزال مستيقظًا. في يدك، يتوهج مصدر الضوء الوحيد، شاشة هاتفك، ساحبًا إياك إلى دوامة لا تنتهي من المقاطع القصيرة، التحديثات، والإشعارات. تبدأ بنية “سألقي نظرة سريعة”، وبعد ما يبدو كدقائق، تكتشف أن ساعة أخرى قد مضت. هذا السيناريو ليس مجرد عادة سيئة، بل هو مدخل إلى حلقة مفرغة تغذيها عوامل بيولوجية ونفسية عميقة، حيث يلتقي السهر مع الإدمان الرقمي في علاقة خطيرة.
السكون المخادع: كيف يصبح الليل ساحة معركة لصحتك النفسية؟
عندما يحل الليل، تتغير كيمياء أدمغتنا. تنخفض قدرة قشرة الفص الجبهي، المسؤولة عن ضبط النفس واتخاذ القرارات المنطقية، بينما يزداد نشاط اللوزة الدماغية، مركز العواطف. هذا المزيج يجعلنا أكثر عرضة للاندفاع وتلبية الرغبات الفورية. بمعنى آخر، قوة إرادتك تكون في أضعف حالاتها، بينما مشاعر القلق والوحدة تجد فرصة مثالية للظهور.
وفقًا لدراسة حديثة نشرت في مجلة PLOS One، فإن الشباب الذين يميلون للسهر (ما يُعرف بالنمط المسائي) هم الأكثر عرضة للوقوع في فخ الاستخدام المفرط للهاتف. لماذا؟ لأن الشاشة تصبح المهرب الأسهل من هذه المشاعر السلبية.
- إحصائية: تشير الأبحاث إلى أن حوالي 30% من الشباب يُصنفون على أنهم “كائنات ليلية”، وهذه المجموعة تحديدًا تظهر استعدادًا أكبر للمعاناة من القلق والاكتئاب.
- مثال: “سارة”، طالبة جامعية، تجد أن ساعات الليل المتأخرة هي وقتها الوحيد للدراسة بهدوء. لكن بعد منتصف الليل، يبدأ شعور بالوحدة يتسلل إليها. لمقاومة هذا الشعور، تفتح وسائل التواصل الاجتماعي. بدلاً من أن تشعر بالتحسن، تجد نفسها تقارن حياتها بحياة الآخرين المصقولة بعناية، مما يزيد من قلقها ويجعلها تتصفح لساعات أطول، مؤثرًا سلبًا على نومها وتركيزها في اليوم التالي.
ليس مجرد عادة، بل حلقة مفرغة: الوحدة كوقود للإدمان الرقمي
المشكلة أعمق من مجرد تصفح عشوائي. بالنسبة للكثيرين، وخاصة الشباب الذين يعانون من العزلة، يصبح الهاتف أداة للتداوي الذاتي. كشفت الدراسة أن الوحدة هي المحرك الرئيسي الذي يدفع الشباب نحو الاستخدام الإشكالي للتكنولوجيا. إنهم لا يبحثون عن الترفيه بقدر ما يبحثون عن اتصال، عن شعور بالانتماء، أو أي شيء يكسر صمت الليل.
المفارقة هنا أن هذا “العلاج” غالبًا ما يزيد المرض. الخوارزميات مصممة لتبقيك مدمنًا، حيث تغذيك بمحتوى لا نهائي يزيد من شعورك بالنقص أو الخوف من فوات الشيء (FOMO).
- رأي: يقول “أحمد”، 22 عامًا: “أعرف أنني يجب أن أنام، لكنني أشعر أنني إذا أغلقت هاتفي، سأكون وحيدًا تمامًا مع أفكاري المقلقة. على الأقل التصفح يجعلني أشعر بأن هناك عالمًا مستيقظًا معي”.
هل نحن ضحايا التصميم المتعمد؟
لا يمكن إلقاء اللوم كله على المستخدم. منصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات مصممة ببراعة لاستغلال نقاط ضعفنا البيولوجية. التمرير اللانهائي (Infinite Scroll)، الإشعارات المفاجئة، والمكافآت المتقطعة (مثل الإعجابات والتعليقات) هي تقنيات مستوحاة من آلات القمار، مصممة لتنشيط نظام المكافأة في الدماغ وإفراز الدوبامين.
ليلاً، عندما تكون دفاعاتنا العقلية منخفضة، يصبح تأثير هذا التصميم أقوى بكثير. نحن لا نقاوم عادة سيئة بقدر ما نقاوم جيشًا من المهندسين وعلماء النفس الذين صمموا هذه المنصات لتكون جذابة إلى أقصى حد. وبالتالي، فإن الإدمان الرقمي ليس فشلاً شخصيًا بقدر ما هو نتيجة متوقعة لبيئة رقمية مفترسة.
بين الوعي المتزايد والتكنولوجيا الأكثر إغراءً
إلى أين نتجه من هنا؟ هناك مساران محتملان:
- المسار المتشائم: ستصبح الخوارزميات أكثر ذكاءً وتخصيصًا، مما يجعل مقاومة الإغراء شبه مستحيلة. قد نشهد تفاقمًا في أزمات الصحة النفسية المرتبطة بالاستخدام المفرط للتكنولوجيا.
- المسار المتفائل: سيزداد الوعي المجتمعي بهذه المشكلة، مما يدفع الشركات لدمج ميزات “العافية الرقمية” بشكل أفضل. سيتعلم الناس كيفية بناء علاقة صحية مع أجهزتهم، وسينشأ جيل جديد يقدر الانفصال عن الشاشة كمهارة أساسية للحياة.
التأثير عليك كقارئ واضح: أنت تقف عند مفترق طرق. الوعي بهذه الآليات هو خطوتك الأولى نحو استعادة السيطرة. لا يتعلق الأمر بالتخلي عن التكنولوجيا، بل باستخدامها بوعي ونية، خاصة خلال الساعات التي تكون فيها أكثر ضعفًا. ابدأ في بناء “روتين إغلاق” مسائي: كتاب، تدوين، أو حتى تأمل بسيط، ليكون بديلاً صحيًا للشاشة التي تسرق نومك وسلامك الداخلي.
المصدر:
دراسة منشورة في مجلة PLOS One (أجرتها جامعة بورتسموث وجامعة Surrey).
قسم الأسئلة الشائعة
1. ما هو الرابط الرئيسي بين السهر والإدمان الرقمي؟
السهر يقلل من قدرة الدماغ على التحكم في الانفعالات ويزيد من مشاعر القلق والوحدة. هذا يجعل الشخص أكثر عرضة لاستخدام الهاتف كوسيلة للهروب أو التداوي الذاتي، مما يؤدي إلى حلقة مفرغة من الاستخدام المفرط.
2. هل الإدمان الرقمي مجرد نقص في قوة الإرادة؟
لا، الأمر أكثر تعقيدًا. إنه ناتج عن تفاعل بين ضعفنا البيولوجي ليلاً، وحاجاتنا النفسية (مثل الشعور بالوحدة)، والتصميم الإدماني المتعمد للتطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي.
3. ما هي أول خطوة عملية يمكنني اتخاذها لكسر هذه العادة؟
ابدأ بإنشاء “منطقة خالية من الهاتف” في غرفة نومك. اشحن هاتفك بعيدًا عن سريرك، واستبدل التصفح الليلي بنشاط مريح آخر مثل القراءة أو الاستماع إلى بودكاست هادئ لمدة 15-30 دقيقة قبل النوم.