في بدايات الثمانينات، حين كان وادي السيليكون يموج بالأحلام الكبيرة والأسماء الصاعدة، كان هناك شاب هادئ الملامح يدرس علم الأحياء فقط لأن عائلته توقّعت منه أن يصبح طبيبًا. لم يكن أحد يتخيّل أن هذا الفتى النحيل القادم من هيوستن سيقلب صناعة التكنولوجيا، ويؤسّس واحدة من أعظم قصص الثراء في تاريخ العصر الرقمي.
كان مايكل ديل يمضي وقته بين محاضراته الجامعية وصندوق أدوات صغير يعبث فيه بتجميع الحواسيب داخل غرفته. لم يكن يرى في الأمر تجارة بقدر ما كان يرى متعة التعرف على “قلب” الآلة. لكن، شيئًا فشيئًا، تحوّل الفضول إلى فرصة، والفرصة إلى طريق جديد لم يكن في الحسبان.
وعندما قرر أن يبيع أول جهاز مُعدّل لتحسين أداء الطلاب في الحرم الجامعي، لم يكن يدري أن تلك اللحظة ستغيّر حياته بالكامل.
من حلم الطب إلى صناعة الحواسيب: البداية التي لم يُخطّط لها أحد
التحق مايكل بجامعة تكساس عام 1983 بدافع عائلي واضح: أن يصبح طبيبًا. لكن رأسه كان مشغولًا بشيء آخر. كان يشتري قطع الحواسيب المستعملة ويعيد تجميعها بطريقة تجعلها أسرع وأرخص وأكثر توافقًا مع احتياجات الطلاب.
كانت جامعة تكساس سوقه الأول، والباب الذي أدخلته إلى عالم أكبر بكثير مما توقّع.
في عمر التاسعة عشرة فقط، أسّس شركته الخاصة باستثمار لم يتجاوز 1000 دولار — مبلغ لا يبدو كبيرًا، لكنه كان كافيًا لإطلاق شرارة التغيير.
من شركة صغيرة إلى اكتتاب ضخم: الصعود السريع
ما إن بدأت الطلبات تتزايد حتى أدرك مايكل أن السوق لا يريد حواسيب جاهزة فقط، بل يريد حلولًا مختلفة، أكثر مرونة، وأكثر قدرة على التخصيص. هنا بدأت بصمته الحقيقية.
وبحلول عام 1988، وبعد خمس سنوات فقط من التجربة الأولى، طرح مايكل شركته للاكتتاب العام.
وفي سن الثالثة والعشرين، أصبح مليارديرًا لأول مرة.
كان وادي السيليكون ينظر إليه كمراهق جريء يسبق عصره. لكنه لم يكن يلعب، كان يبني.
الأزمة التي كادت تُسقط كل شيء
خلال التسعينات، تواصل نجاح Dell، لكن النجاح كان يحمل معه تناقضاته. فالمنافسة تشتد، والإدارة تكبر، والعثرات تتضاعف.
اندلعت أزمة محاسبية، وانخفضت المبيعات، وبدأت الصحف تتحدث عن نهاية عملاق تكنولوجي قبل اكتمال نضجه. تراجع مايكل ديل عن منصبه، لكنه لم يغادر الحلم. ظلّ قريبًا من التفاصيل، وكأنه يستعد لعودة جديدة.
وبالفعل — بعد ثلاث سنوات فقط — عاد ليقود الشركة بنفسه، ويحوّل الأزمة إلى انطلاقة جديدة تمامًا.
الانسحاب من البورصة: قرار جريء غيّر تاريخ الشركة
في 2013، اتخذ ديل خطوة صادمة للسوق:
قرّر أن يسحب شركته من البورصة في صفقة بلغت 24 مليار دولار.
كان يرى ما لا يراه الآخرون:
أن Dell بحاجة إلى الحرية كي تُعاد صياغتها، وأن التغيير الكبير يحتاج إلى مساحة بعيدة عن ضغوط المستثمرين.
وبعد ذلك بعامين فقط، قام بخطوة فاجأت العالم مرة أخرى:
صفقة استحواذ على EMC بـ 67 مليار دولار — أكبر صفقة في تاريخ التكنولوجيا.
بهذه الحركة، أعاد مايكل تعريف شركته من مجرد شركة أجهزة إلى إمبراطورية حلول تكنولوجية متكاملة.
ثروة هائلة تتجاوز 150 مليار دولار
تشير التقديرات الحديثة إلى أن ثروة مايكل ديل تجاوزت 150 مليار دولار، موزعة بين:
- 37 مليار دولار: حصته في Dell
- نحو 70 مليار دولار: حصته في شركة Broadcom
- أموال سائلة وعوائد توزيعات تمثل جزءًا مهمًا من ثروته
ورغم كل هذا، يواصل عبر مؤسسته الخيرية دعم الأطفال في التعليم والصحة حول العالم — امتداد هادئ لفلسفته القديمة: أن تُصلح الشيء من الداخل، لا من الخارج.
لماذا أصبحت قصة ديل نموذجًا نادرًا؟
إذا نظرنا إلى حكاية مايكل ديل من منظور اقتصادي وتقني، سنلاحظ ثلاث نقاط جوهرية:
1) التوقيت أهم من الفكرة
باع مايكل أول حاسوبه في لحظة كانت السوق فيها عطشى للحلول المخصصة.
الفرصة وحدها لا تكفي — توقيت اغتنامها هو ما يُغيّر المسار.
2) الجرأة المحسوبة
الانسحاب من البورصة خطوة لا يتجرأ عليها إلا من يقرأ السوق بدقة، ويرى ما وراء الضباب.
هذه القرارات هي التي تخلق قفزات هائلة لا تتحقق عبر خطوات صغيرة.
3) العلاقة بين التكنولوجيا والثروة
اليوم، تتكرر الدروس ذاتها مع الذكاء الاصطناعي.
من يضع نفسه في الطريق بين التكنولوجيا الجديدة والمستخدمين — كما فعل ديل قبل 40 عامًا — قد يكون هو صاحب القصة التالية.
قصة مايكل ديل ليست مجرد رحلة من ألف دولار إلى 150 مليارًا، بل مثال على أن النجاح ليس خطًا مستقيمًا، وأن القرارات التي تبدو جنونية أحيانًا تكون الأكثر منطقية عندما تُرى من زاوية المستقبل.
لذلك، فإن السؤال الحقيقي ليس ما الذي فعله مايكل ديل، بل:
كيف يمكن لكل واحدٍ منّا أن يصنع لحظته المناسبة عندما يطرق الباب؟



