تخيّل أن سماعة الأذن التي ترتديها يوميًا لتستمع إلى الموسيقى أو المكالمات، تصبح قادرة على فهم ما تفكر به، وقياس مستوى تركيزك، بل وحتى معرفة ما يعجبك دون أن تنطق بكلمة واحدة.
هذا ليس مشهدًا من فيلم خيال علمي، بل مشروع واقعي قيد التطوير في كوريا الجنوبية، بدعم من شركة سامسونغ وMedical AI، وبمشاركة باحثين من جامعة هانيانغ.
التقنية التي تستمع إلى دماغك
تعتمد هذه السماعات الثورية على تقنية تُعرف باسم ear-EEG، أي “تخطيط كهربائية الدماغ عبر الأذن”.
تحتوي السماعة على أقطاب كهربائية جافة صغيرة مثبتة داخل تجويف الأذن، تلتقط الإشارات الكهربائية الدقيقة التي يولّدها الدماغ باستمرار، تمامًا كما تفعل أجهزة تخطيط الدماغ الطبية (EEG)، لكن دون الحاجة إلى خوذة كبيرة أو أسلاك مزعجة.
تُرسل البيانات إلى الهاتف الذكي، وهناك يقوم الذكاء الاصطناعي بتحليلها لحظة بلحظة، ليكشف مدى انتباه المستخدم، أو علامات النعاس، أو حتى مدى استمتاعه بفيديو أو أغنية معينة.

نتائج أولية مدهشة
وفقًا للتقارير التقنية الصادرة عن سامسونغ ووسائل علمية مثل NotebookCheck وDigital Health News، فقد أظهرت النماذج الأولية دقة فاقت 90٪ في تحليل الإشارات الدماغية المتعلقة بالتركيز وتفضيل المحتوى.
بل وأشارت بعض التجارب إلى إمكانية التنبؤ باستجابة المستخدم تجاه مقاطع الفيديو بنسبة تصل إلى 92.8٪ — وهي خطوة ضخمة مقارنة بالأبحاث السابقة التي لم تتجاوز دقتها 70-80٪.
هذه النتائج لا تزال في المختبر، لكنها تفتح الباب أمام أجهزة استهلاكية “تفهمنا” بالفعل من الداخل.
من المختبر إلى الحياة اليومية
التطبيقات المحتملة لهذه التقنية هائلة:
- 🚗 السلامة المرورية: مراقبة يقظة السائق وتنبيهه عند فقدان التركيز.
- 🧑💻 زيادة الإنتاجية: مساعد ذكي يقيس لحظات الانتباه أو التشتّت أثناء العمل.
- 🎮 تجربة ترفيهية ذكية: منصات تعرف تلقائيًا ما يعجبك من محتوى دون تقييم يدوي.
- 💤 الصحة والنوم: مراقبة أنماط النوم واكتشاف اضطرابات الدماغ بطريقة مريحة وآمنة.
وفي المستقبل، قد تمتد هذه التقنية لتصبح جزءًا من الأجهزة القابلة للارتداء التي تُدمج في أنظمة الواقع المعزز أو التحكم الذهني في الأجهزة.

بين الطموح والواقع
مع كل هذه الوعود، هناك تحديات حقيقية لا يمكن تجاهلها.
الإشارات الدماغية ضعيفة جدًا وتتأثر بسهولة بالحركة أو الضوضاء، كما أن اختلافات الأفراد تجعل خوارزميات الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى تدريب شخصي لكل مستخدم.
كما تبرز قضية الخصوصية بقوة: من يملك بيانات دماغك؟ ومن يضمن عدم استغلالها تجاريًا أو سياسيًا؟
هذه الأسئلة تفتح نقاشًا واسعًا حول أخلاقيات “قراءة الأفكار” في عالم ما بعد الذكاء الاصطناعي.
مقارنة مع مشاريع مشابهة عالميًا
ما تقوم به كوريا الجنوبية اليوم ليس معزولًا عن التطور العالمي في هذا المجال.
- شركة Emotiv الأسترالية-الأمريكية أطلقت سماعات EEG قابلة للارتداء باسم MW20، تُستخدم لقياس الانتباه والإجهاد العقلي في الوقت الحقيقي.
- شركة Neurable طورت سماعات رأس ذكية تترجم أنماط الدماغ إلى إشارات تحكم تتيح للمستخدم التفاعل مع الحاسوب أو الألعاب بعقله فقط.
- في الولايات المتحدة، يجري باحثون من جامعة كاليفورنيا تجارب على سماعات تجمع بين التحليل الكهربائي والكيميائي داخل الأذن لقياس نشاط الدماغ ومستوى الإجهاد البدني معًا.
لكن ما يميز المشروع الكوري هو سعيه إلى دمج هذه القدرة داخل سماعات الأذن اليومية، دون الحاجة إلى خوذة أو أجهزة إضافية — وهو ما يجعله الأقرب للتحول إلى منتج استهلاكي حقيقي.
نظرة مستقبلية
رغم أن المشروع ما زال في مرحلة مبكرة، إلا أنه يشير بوضوح إلى اتجاه جديد في صناعة التكنولوجيا: الانتقال من الأجهزة التي “نستخدمها” إلى الأجهزة التي “تفهمنا”.
وفي غضون سنوات قليلة، قد نصل إلى زمن تُصبح فيه سماعات الأذن شريكًا معرفيًا يعكس حالتك الذهنية لحظة بلحظة، لتجعل تفاعلك مع التكنولوجيا أكثر انسجامًا مع عقلك.
المصادر:
- Digital Health News
- NotebookCheck
- Nature Electronics
- PubMed: In-Ear EEG Research by Jeong et al.
- IEEE Sensors Journal
- University of Hanyang Biomedical Engineering Lab