لطالما كان تاريخ الكعبة المشرفة أكثر من مجرد حكاية بناء؛ فهو خيطٌ ناظمٌ لتاريخ الجزيرة العربية كلّه. منذ اللحظة التي رفع فيها إبراهيم عليه السلام القواعد في وادٍ غير ذي زرع، وحتى توسعات الحرمين الشاملة في القرن الحادي والعشرين، ظلت الكعبة مركزاً روحياً وسياسياً واقتصادياً. وفي هذا المقال نستعرض، رحلة البيت العتيق مع إضافة أمثلة معاصرة تبرز استمرار مكانته حتى اليوم.
إبراهيم عليه السلام: بناء الأساسات في وادٍ غير ذي زرع
تتباين المصادر التاريخية حول التاريخ المحدد لبناء الكعبة وأول ظهور لها، لكن معظمها يتفق على روايات دينية تتناول ظهورها الأول، وقد تناقلها المؤرخون المسلمون الذين أرّخوا للفترة الإسلامية المبكرة وما قبلها.
يذكر المؤرخ اليوناني “ديودور الصقلي” (90-30 ق.م) في الجزء الثاني من موسوعته “مكتبة التاريخ” وجود معبد مهم في منطقة قريبة من ساحل جدة كانت تتجه إليه جميع القبائل العربية.
يقول الباحث رضا عساسي، المتخصص في تاريخ ونظريات الهندسة، في بحثه “الكعبة بيت بني تحت الشمس”: الكعبة، أقدس مبنى في الإسلام بمكة، استمدت اسمها من شكلها الهندسي المكعب. لا تتوفر تقارير تاريخية موثوقة كثيرة حول أصول بنائها، ومع ذلك، فقد كانت معبدًا مقدسًا ذا أهمية كبيرة للقبائل العربية قبل الإسلام، وتُرجع الروايات الإسلامية بناءها إلى زمن إبراهيم عليه السلام. ويطلق القرآن الكريم على هذا المكان اسم “البيت العتيق”.
يشير عساسي إلى وجود دلائل واضحة تعود إلى التاريخ المبكر لمكة في الأدب القديم قبل ظهور الإسلام. لكن الروايات الإسلامية عن بناء الكعبة تعود إلى زمن أبعد، وتربط ظهورها بالاستيطان في وادٍ خالٍ بمكة، بعد تدفق ماء زمزم الذي كان هبة إلهية لهاجر زوجة النبي إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام. وقد تمركزت قبيلة جرهم قرب هذا النبع، وشكلت النواة الأولى لمكة. وتذكر بعض الروايات الإسلامية أن الكعبة بُنيت في فترة بلوغ النبي إسماعيل، الذي كان قد تزوج من قبيلة جرهم.
وفي ذلك يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. (سورة البقرة الآية 127).
لكن روايات أخرى تشير إلى أن النبي إبراهيم عليه السلام رفع قواعد الكعبة، وأن وجودها كان سابقًا لذلك، وأن بناءها كان من الملائكة ثم آدم. ويستدل أصحاب هذه الرواية بالآية الكريمة: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) (سورة البقرة الآية 96)، وهذا هو الرأي الأكثر شيوعًا بين علماء المسلمين.

“حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام”: بناء ملائكي
يذكر المؤرخ علي حسين الخربوطلي في كتابه “تاريخ الكعبة” أن بعض المؤرخين ينسبون بناء الكعبة إلى الملائكة، بينما يعزوه آخرون إلى آدم، ثم يستعرض أقوالهم: يقول المؤرخون الذين ينسبون بناء البيت إلى الملائكة إن الله عز وجل غضب على الملائكة عندما قال لهم: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (سورة البقرة آية 30). فالتجأت الملائكة إلى العرش وطافت به سبع مرات، كما يطوف الناس بالبيت الحرام، قائلين: لبيك اللهم لبيك، ربنا معذرة إليك، نستغفرك ونتوب إليك. فنظر الله إليهم وأنزل عليهم الرحمة، ووضع سبحانه وتعالى بيتًا تحت العرش هو البيت المعمور، ثم قال للملائكة: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، فكان طوافهم بهذا البيت أيسر عليهم من طوافهم بعرش الخالق.
ثم أمر الله الملائكة أن يبنوا في الأرض بيتًا على غرار البيت المعمور، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. فبنته الملائكة قبل ألفي عام من نزول آدم، وكانوا يحجون إليه. وعندما حج آدم إلى هذا البيت، قالت له الملائكة: “بر حجك يا آدم، حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.” انتهى كلام الخربوطلي.
روى أحمد ابن فضل الله العمري في كتابه “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” نقلًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان عرشه على الماء، على زبدة الماء. وعندما حان زمن الطوفان، رفع الله البيت، وطهره من أن تصيبه عقوبة أهل الأرض، فصار معمورًا في السماء، حتى تتبع النبي إبراهيم أثره لاحقًا فبناه.
قرين البيت المعمور: طين وحجارة من عهد شيث بن آدم
ينسب ابن قتيبة الدينوري في كتابه “المعارف” بناء الكعبة إلى شيث بن آدم، قائلًا: كان شيث بن آدم أفضل أولاد آدم وأحبهم إليه، وكان وصي أبيه وولي عهده، وهو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة، وكانت هناك خيمة لآدم أعدها الله له من الجنة. كما يذكر المؤرخ المسعودي في كتابه “مروج الذهب” أن قوم عاد قصدوا مكة عندما أصابهم القحط، وأنهم كانوا يعظمون موضع الكعبة قبل بناء النبي إبراهيم لها. وكان في مكان الكعبة معبد قديم للعماليق، لكنه اندثر قبل قدوم إبراهيم إلى الحجاز.
تتنوع الروايات الإسلامية حول أصل بناء الكعبة، لكن معظمها يتفق على أن النبي إبراهيم عليه السلام كان أول من بناها على هيئتها الحالية. يروي الباحث رضا عساسي أن الكعبة التي بنيت في عهد النبي إبراهيم كانت عبارة عن بيت ذي جدران أربعة بلا سقف، ويقول: وفقًا للروايات الإسلامية، قام آدم وحواء ببناء بيت للعبادة في هذا الموقع، والذي فُقد خلال الطوفان العظيم في زمن نوح، ثم أعاد إبراهيم وابنه إسماعيل بناءه بأمر من الله.
وأثناء قيام إبراهيم ببناء الكعبة، أحضر له ملك حجرًا أسود، ووضعه في الزاوية الشرقية من البناء، ولا يزال هذا الحجر الأسود جزءًا من المبنى الحالي. وبغض النظر عن الرواية الأسطورية التي تشير إلى ظهور الموقع لآدم وحواء من خلال الحجر الذي سقط من السماء، هناك رواية إسلامية مهمة أخرى حول الخصائص الجغرافية الفريدة للكعبة. يقتبس ابن رسته -وهو مستكشف فارسي من القرن الثالث الهجري- عن ابن عباس قوله إن الكعبة مبنية مباشرة تحت بيت سماوي يسمى البيت المعمور، بحيث إذا سقط حجر من ذلك البيت، فإنه سيقع على الكعبة. ووفقًا لمصادر أخرى، يقع البيت المعمور في الطبقة الرابعة من السماء، وتطوف به الملائكة ليلًا ونهارًا.
“يا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتا”
من المعروف أن النبي إبراهيم عليه السلام قادته أقدار الله لترك زوجته هاجر وابنه الرضيع إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، حيث قال تعالى على لسان إبراهيم: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ (الآية 37 من سورة إبراهيم)، ويقع هذا الوادي في مكة. وقد أظهر الله رحمته بهاجر وابنها، ففجّر لهما نبع ماء أصبح يعرف ببئر زمزم، والذي ستحاذيه الكعبة لاحقًا. تذكر الروايات التاريخية الإسلامية أن هذا البئر كان سببًا في استيطان قبيلة جرهم في ذلك المكان الخالي، ومنها تشكلت النواة الأولى لمدينة مكة، خاصة بعدما بنى إبراهيم عليه السلام الكعبة ورفع قواعدها.
يقول المؤرخ علي حسين الخربوطلي في كتابه “تاريخ الكعبة”: “صادف أن مرت قبيلة جرهم بذلك المكان، فشاهدت طيورًا تحوم في السماء، فأدركت أن هناك ماء، فعجبوا من ذلك، فقد كانوا يمرون بالمكان فيجدونه قفرًا جدبًا، ومروا حذو هاجر، واستأذنوا منها الإقامة إلى جانب البئر، فأذنت لهم، فشب إسماعيل في قبيلة جرهم، وتعلم منهم اللغة.”
وتروي المصادر التاريخية الإسلامية أن الله أمر النبي إبراهيم ببناء الكعبة، لذلك سار نحو مكة وقد عمرت، وكان ابنه إسماعيل قد بلغ الثلاثين يومئذ، فأمره الله ببناء الكعبة فبناها مع ابنه. ويروي الطبري أن إبراهيم قال لإسماعيل: “يا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتًا.” فقال له إسماعيل: “فأطع ربك فيما أمرك.” فقال إبراهيم: “قد أمرني أن تعينني عليه.” فقال: “إذن أفعل.” فقام معه فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة، فيقولان: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. فلما فرغ إبراهيم من بناء البيت، أمره الله أن يؤذن بالحج: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾.

جرهم والعماليق: صراع النفوذ حول البيت العتيق
أشرف إسماعيل عليه السلام على الكعبة بعد الانتهاء من بنائها، وعند وفاته، ترك رعايتها لابنه نابت. ثم انتزعت قبيلة جرهم الوصاية على الكعبة من نسل إسماعيل. يقول الكاتب علي حسين الخربوطلي: “تولى الحارث بن مضاض شؤون الكعبة، وكان يقيم في مكان على مشارف مكة يسمى قعيقعان، وكان يأخذ عُشر تجارة كل من يدخل مكة.”
وكان للعماليق في ذلك الوقت ملك يدعى السميدع بن هوبر، وكان يقيم في الجزء السفلي من مكة ويستولي على أعشار التجارة التي تدخل مكة من جهته. اندلع نزاع بين الملكين، ونشب القتال لفترة، ثم تصالحوا واتفقوا على أن يتولى العماليق الإشراف على الكعبة. وظلوا يتولون ذلك حتى استعاد الجرهميون نفوذهم، واستمروا في الإشراف على الكعبة لمدة 300 عام، وكان آخر ملوكهم الحارث بن مضاض الأصغر، وقد زادوا في بناء البيت ورفعته عما كان عليه من بناء إبراهيم عليه السلام. ثم طغت قبيلة جرهم وتكبرت وتهاونت في المهمة الكبرى الموكلة إليهم فاستولوا على أموال الكعبة. انتهى كلام الخربوطلي.
أصبحت الكعبة هدفًا لأطماع قبائل أخرى تنافست على الوصاية عليها، حتى اندلعت حرب بين قبيلتي مضر وإياد. وعندما شعرت إياد بالهزيمة، استولت على الحجر الأسود وقامت بدفنه.
صادف أن شاهدت امرأة من قبيلة خزاعة مكان دفن الحجر الأسود، فأخبرت قومها بمكانه. فساوموا على كشف مكانه مقابل الاعتراف بولاية خزاعة على الكعبة.
عمرو بن لُحَي: إدخال الأصنام وتغيير ديموغرافية الحج
يذكر كتاب “تاريخ الكعبة”: “تحولت الكعبة إلى بيت للعبادة الوثنية عندما تولت قبيلة خزاعة ولاية الكعبة، على يد عمرو بن لُحَي الخزاعي.” يروي اليعقوبي أن عمرو بن لحي سافر إلى الشام للعلاج، فرأى أهلها يعبدون الأصنام، فسألهم: “ما هذا الذي تعبدون؟” فقالوا: “نستنصرها فتنصرنا، ونستسقي بها فنسقى بها.” فأحضر منها صنمًا يسمى هُبَل، ووضعه عند الكعبة.
وقد اتسع نفوذه خلال ولايته على مكة، حتى اعتنق العرب العقيدة الجديدة التي حلت محل عقيدة التوحيد التي دعا إليها إبراهيم وإسماعيل، ونُصب هُبل في قلب الكعبة، مما أثار احتجاجات من قبيلة جرهم. وينسب لشحنة بن خلف الجرهمي قوله:
يا عَمرُو إنكَ قد أَحدثتَ آلهةً .. شَتَّى بمكةَ حولَ البيتِ أنصابا
وكانَ لِلبيتِ رَبٌّ واحدٌ أبدًا .. فقد جعلتَ له في الناسِ أربابا

أصبحت مكة وبيتُها المعظم مكانًا مقدسًا للعرب، فكانت القبائل تشد الرحال إليها من كل مكان للحج كل عام، وأصبح الحج موسمًا للنشاط الاقتصادي، مما جعل مكة مركزًا دينيًا وتجاريًا، وهذا ما جعلها محط أطماع القبائل القوية.
قصي بن كلاب: رجل ذكي منح قبيلته كنزًا عظيمًا
قبل ظهور الإسلام بفترة طويلة، استقرت قبيلة قريش في مكة وسيطرت على المكان، فأصبحت الكعبة تحت وصايتها.
يقول جورجي زيدان في كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي”: “كانت مكة أشهر مدن الحجاز، نظرًا لكونها مقصدًا للحجاج من أقصى البلاد لزيارة الكعبة، فأصبحت مع مرور الأجيال مركزًا تجاريًا، يتوافد إليها الحجاج في المواسم كل عام، فطمحت إليها أنظار أهل السلطة من القبائل القوية.”
وكانت في بداياتها تحت حوزة الحجازيين بني إسماعيل، الذين كانوا سدنة الكعبة (حجابها). ثم نزح إليها بنو خزاعة من اليمن بعد سيل العرم، حوالي القرن الثاني للميلاد، وسيطروا عليها، وتغلبوا على الحجازيين. وكان الإسماعيليون أو العدنانيون في ذلك الوقت ضعفاء لا يقوون عليهم. ولكن قضي عليهم كما قضي على سواهم، فدارت الدائرة بعد عدة أجيال على بني خزاعة وضعف أمرهم، وقوي أمر العدنانية، فتفرع منهم كنانة، وتشعب من كنانة قريش. انتهى كلام جورجي زيدان.
ووفقًا للكتاب نفسه، كان قصي بن كلاب بن مرة سيد قريش في القرن الخامس الميلادي، وتمتع بحكمة ودهاء سياسي. فتزوج ابنة القائم على أمر الكعبة آنذاك، وهو من قبيلة خزاعة، طمعًا في منصب الولاية على ذلك البيت المقدس. وعندما توفي القائم على سدانة الكعبة، تسلم الولاية عليها ابن له، فاحتال عليه قصي بن كلاب ليسلمه سدانة الكعبة. وحينها تحولت ولاية الكعبة من قبيلة خزاعة إلى قريش. ثم ورث السدانة من قصي ابنه عبد مناف، ثم أوصى بها قبل وفاته لابنيه هاشم وعبد شمس، لكن هاشمًا استأثر بها وحده، وورثها من بعده ابنه عبد المطلب، وهو جد الرسول محمد ﷺ.
عصر قريش: عاصمة التجارة والعبادة في بلاد العرب
يقول جورجي زيدان في كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي”: “كانت قريش أهل تجارة، وكانت تجارتهم قائمة في معظمها على الحجاج الذين يرتادون مكة، فكان من مقتضيات مصلحتهم تسهيل طرق القدوم وترغيب الناس في الحج.”
ومما شجع القبائل على زيارة الكعبة، هو وجود صنم خاص بكل قبيلة، يأتون لزيارته والذبح له في المواسم. حتى زاد عدد الأصنام في الكعبة على 300 صنم، وتراوحت بين الكبيرة والصغيرة، ومنها ما كان على هيئة آدمية، أو على هيئة بعض الحيوانات أو النباتات.
كانت الكعبة مصدر رزق لأهل مكة، ولولاها لما استطاعوا العيش في ذلك الوادي غير ذي الزرع. وعلى الرغم من ذلك، فإن أسفارهم واختلاطهم بالعالم المتحضر في أطراف العراق والشام، جعلتهم الأكثر علمًا وخبرة ودراية بين العرب. ونظرًا لارتباط الكعبة بأسباب معيشتهم، أولوا اهتمامًا كبيرًا في إدارة شؤونها، وسهلوا قدوم الناس إليها، فأنشأوا فيها أماكن للسقاية وأخرى للطعام، وجعلوا ما يجاورها حرمًا يُمنع فيه القتال. وتولى بعضهم السقاية، وبعضهم الرفادة. انتهى كلام جورجي زيدان.
أنشأت قريش مناصب لإدارة الكعبة، وكان أعلاها السدانة أو الحجابة، ويتولى هذا المنصب قرشي يمتلك مفتاح الكعبة، يفتح بابها للزوار ويغلقه. أما منصب السقاية فكان صاحبه يسقي الحجاج من أحواض جلدية أقيمت في فناء الكعبة، قبل إعادة حفر بئر زمزم. أما المنصب الآخر، وهو الرفادة، فكانت قريش تخصص أموالًا وتمنحها للقائم على الرفادة لإعداد الطعام للفقراء.
شكلت مكة والكعبة مطمعًا للقبائل المجاورة للحجاز. وفي منتصف القرن السادس الميلادي، سار الأحباش نحو الكعبة بفيلتهم بهدف غزوها، وعُرف ذلك العام بعام الفيل، وكان ذلك في عهد ولاية عبد المطلب جد رسول الله ﷺ.
عام الفيل وبزوغ فجر النبوة
مع ولادة سيد الخلق محمد بن عبد الله رسول الله ﷺ في مكة، كانت قريش قد اكتسبت بالكعبة جاهًا عظيمًا وثروة كبيرة، وكانوا بحاجة إلى السلام مع باقي القبائل لحماية الكعبة. وقد أنشأت الحرم حولها، وهي مناطق يحرم فيها القتال.
وينقل الرواة أن الرسول الكريم ﷺ كان قد شارك في إعادة بناء الكعبة، وذلك قبل البعثة بخمس سنوات. وقد تنازعت قريش فيما بينها على شرف وضع الحجر الأسود في مكانه عند إعادة البناء، فحكم محمد ﷺ بينهم في ذلك، ورضيت القبائل بحكمه.
يقول الكاتب جورجي زيدان في كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي”: “كان النبي ﷺ قبل ظهوره بالدعوة موضع احترام أهل مكة كافة، وأهله يحبونه ويكرمونه، وهو في عيش هنيء. فأصبح بعد ظهوره بالدعوة وقد ناصبه أهل مكة العداء، وساموه أنواع العذاب وأهانوه، حتى نقموا على بني هاشم، لأنهم أهله، فتعاقدوا على ألاّ يناكحوهم ولا يبايعوهم، وكتبوا بذلك صحيفة أودعوها في جوف الكعبة، فاضطر بنو هاشم أن ينفروا إلى الجبال، فأقاموا في الشعب 3 سنين، لا ينزلون مكة إلا خفية، إلا من جاهر بعداوته للمسلمين، كأبي لهب ونحوه.” انتهى كلام جورجي زيدان.
كان الرسول ﷺ في ذلك الوقت تحت حماية عمه أبي طالب. وعند وفاته، خشي على الذين أسلموا من بطش قريش، فاضطر المسلمون إلى الهجرة. لكن الله كتب لهم النصر، وعاد الرسول ﷺ إلى مكة عام 8 هجري (630م)، ففتحها وتوجه إلى الكعبة.
﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾: تحطيم أصنام مكة
يقول الباحث “سيمون بايدج” في كتابه “مكة.. قلب الإسلام المبارك”: “يتوافق المعنى الروحي للكعبة مع الأسطورة أو الوحي، ويرتبط دورها -بوصفها مركزًا طقسيًا للعالم الإسلامي- ارتباطًا مباشرًا بحقيقة أنها تشكل رابطًا حاسمًا مع النبي إبراهيم، ومع أصول جميع الديانات التوحيدية تبعًا لذلك.”
لم تدمر الأصنام الموجودة في الكعبة وما حولها إلا بعد فتح مكة على يد النبي ﷺ، وقد ساهم بنفسه في تدمير الأصنام، وهو يتلو قول الله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (سورة الإسراء، الآية 81). بعبارة أخرى، فقد أعاد النبي ﷺ مكانة الكعبة والحرم حولها إلى دورها الإبراهيمي الأصلي، بوصفها مركزًا للعبادة التوحيدية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الكعبة قلب الإسلام، والوجهة التي يتجه إليها المسلمون في صلاتهم، وبقيت بيت الله الحرام في أرضه.
التوسعات الأموية والعباسية والعثمانية
- الأمويون*: زادوا ارتفاع الجدران وأدخلوا الرخام لأول مرة.
- العباسيون*: دعّموا الأساس بالرصاص المذاب لتفادي السيول.
- العثمانيون*: وضعوا قبة الرصاص الشهيرة ومنبر السلطان.
على سبيل المثال، تشير مخطوطات متحف توب كابي إلى أن سلاطين آل عثمان أنفقوا ما يعادل 15% من دخل ولاية الحجاز السنوي لصيانة الكعبة.
التوسعات السعودية الحديثة: أرقام قياسية
من توسعة الملك عبد الله التي ضاعفت المساحة إلى مشروع الرواق السعودي الحالي، ارتفع استيعاب المسجد الحرام من 50 ألف طائف في الساعة إلى أكثر من 130 ألفاً. علاوة على ذلك، أُدخل نظام تبريد أرضي يخفض الحرارة بمقدار 8 درجات، وهو رقم يفوق متطلبات ميثاق المباني الخضراء العالمي.
خاتمة
إن تاريخ الكعبة المشرفة ليس مجرد فصولٍ متتابعة، بل قصة إنسانية جامعة توحّد الماضي بالحاضر. فكل حجر في البيت العتيق يروي حكاية قبيلة، وكل توسعة تعكس تطلّع أمةٍ إلى خدمة ضيوف الرحمن. ومع استمرار الابتكار في إدارة الحشود والخدمات الذكية، يبقى الدرس الأهم أن وحدة الهدف – عبادة الله – قادرة دائماً على تجاوز تنافس البشر.
المصدر:
الجزيرة الوثائقية + مراجع تاريخية إسلامية
أسئلة قد يطرحها القراء:
ما هو تاريخ بناء الكعبة المشرفة؟
يرجع أغلب المؤرخين المسلمون بناء الكعبة إلى نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، ولكن بعض الروايات تشير إلى أن الملائكة هي من وضعت أول بيت لله في الأرض قبل ذلك بآلاف السنين، وسُمي هذا البيت بالبيت العتيق.
من أول من بنى الكعبة؟
تعددت الآراء في هذا، فهناك من يقول إن آدم عليه السلام هو أول من بناها، بينما تشير روايات أخرى إلى أن الملائكة بنته بأمر من الله، ثم أعاد إبراهيم عليه السلام بناءه بعد الطوفان.
لماذا تعتبر الكعبة المشرفة مقدسة؟
الكعبة هي قبلة المسلمين في الصلاة، وأول بيت وضع للناس لعبادة الله، كما أنها ترتبط بالنبي إبراهيم الذي يُعتبر أحد رموز التوحيد في الديانات الإبراهيمية.
ما هو الحجر الأسود الموجود في الكعبة؟
الحجر الأسود هو حجر بيضاوي أسود اللون يقع في الركن الشرقي من الكعبة، ويقال إنه نزل من الجنة وكان أبيضَ، واسودّ بسبب خطايا البشر. يُعتبر تقبيل الحجر الأسود من السنن أثناء الطواف.
كم مرة هُدمت الكعبة وأعيد بناؤها؟
تعرضت الكعبة للهدم وإعادة البناء أكثر من مرة، من أشهرها ما فعلته قريش قبل البعثة بخمس سنوات، وما قام به عبد الله بن الزبير بعد الحريق، وكذلك الترميمات التي جرت في العصر الأموي والعباسي والعثماني ثم السعودي.
من يحتفظ بمفتاح الكعبة اليوم؟
ما زال مفتاح الكعبة بيد بني شيبة، كما أمر بذلك النبي محمد ﷺ عند فتح مكة، ولا يزال هذا الشرف محفوظًا في هذه الأسرة حتى اليوم.
لماذا نرى ازدحامًا شديدًا عند الحجر الأسود؟
لأنّ تقبيل الحجر الأسود من السنن المؤكدة في الطواف، ويحاول الكثير من الحجاج والمعتمرين تقبيله اقتداءً بالنبي ﷺ، ولذلك يحدث ازدحام في هذا الركن من الكعبة.
ما الفرق بين الكعبة والبيت المعمور؟
الكعبة هي بيت الله في الأرض، أما البيت المعمور فهو بيت في السماء السابعة تطوف حوله الملائكة، ويُقال إن الكعبة تقع مباشرةً تحته في المحاذاة.
ما سبب تسمية الكعبة بـ “البيت العتيق”؟
قيل في سبب التسمية “البيت العتيق” أنها تعني البيت القديم من قِدم الزمان، أو لأنه عتيق أي حر ومحرّم على أن يملكه أحد، وهو لله وحده.
هل للكعبة مكانة خاصة في الحضارات القديمة؟
نعم، تشير بعض الكتابات مثل ما جاء عند “ديودور الصقلي” إلى أن هناك معبدًا مقدسًا في شبه الجزيرة العربية، يقصده الناس من مختلف القبائل، مما يعزز الروايات الإسلامية عن قدسية الكعبة منذ القدم.