“باسم الله الرحمن الرحيم”: الرحمة كأصل للوجود
لا يبدأ فهم الرحمة في الإسلام من الحديث عن سلوكنا كبشر، بل يبدأ من بصيرة الوجود الأولى: الله. إن افتتاح المسلم كل شأنٍ ذي بالٍ بـ “بسم الله الرحمن الرحيم” ليس مجرد طقسٍ يُستهل به الكلام، بل هو إعلان فلسفي عميق بأن هذا الوجود، وهذه الحياة، وهذا الدين، قد قام على صفتي “الرحمن” و “الرحيم”. الرحمة، إذن، هي “البصيرة الحاكمة” التي تسبق الخلق والأمر؛ هي الأصل، وما سواها من غضب أو عقاب هو استثناءٌ طارئ لمعالجة عارض.
ومن هذا المنطلق، لم تكن الرسالة المحمدية إلا تجسيداً لهذا الأصل الإلهي. لم يقل القرآن “وما أرسلناك إلا للعقاب” أو “لفرض السيطرة”، بل حدد الغاية الكونية الوحيدة بقوله: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ“ (الأنبياء: 107). فالنبوة في جوهرها هي “مشروع رحمة” كوني، ممتد لكل “العالمين”؛ إنساناً وحيواناً ونباتاً، مؤمناً وكافراً.
ولكن، هنا تبرز الإشكالية المعاصرة: كيف يمكن لدينٍ هذا جوهره المطلق، أن يُختزل أحياناً في ممارسات تتسم بالغلظة، أو أن يتحول إلى شعارات عاطفية تُرفع في المناسبات بينما الواقع يخلو من أثرها؟ هنا يكمن الفرق الدقيق بين “الرحمة كشعار” يُرفع للاستهلاك، و”الرحمة كجوهر” يُعاش كمنهج حياة.
الرحمة كـ “تشريع”.. حين تكون القاعدة لا الاستثناء
إن البصيرة القرآنية تكشف أن التشريع الإسلامي ليس مجموعة أوامر ونواهٍ جامدة، بل هو “ترجمة” عملية لصفة “الرحمن الرحيم” في واقع حياة الناس. الهدف من التشريع ليس “الشقاء”، بل “الرحمة”؛ “طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ“ (طه: 1-2).
أولاً، في العبادات، نجد هذا الجوهر واضحاً. لم تُشرع العبادات لتعذيب الجسد، بل لتهذيب الروح وتزكيتها.
- الصيام: رُخص الإفطار للمريض والمسافر ليست ترفاً، بل هي تطبيق مباشر لقوله تعالى: “يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ“ (البقرة: 185).
- الطهارة: عند فقدان الماء أو العجز عن استعماله، يأتي التيمم كبديل ترابي يحفظ كرامة الإنسان وييسر عليه، ليؤكد أن الغاية هي “التطهير الروحي” لا “التعقيد المادي”.
ثانياً، في المعاملات والقانون، تتجلى الرحمة كمنهج حاكم.
- في الديون: يضع القرآن قاعدة إنسانية فريدة، فيقول: “وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ“ (البقرة: 280). إنه لا يكتفي بتأجيل السداد (الرحمة)، بل يرتقي إلى حث الدائن على التصدق بالدين (قمة الرحمة).
- في العقوبات: حتى في الحدود والقصاص، التي تبدو في ظاهرها قسوة، فإن جوهرها هو “الرحمة”. هي رحمة بالمجتمع عبر الردع وحفظ الأمن، وفي الوقت ذاته، هي رحمة بالمتهم عبر إغلاق كل السبل لإثبات الجريمة وفتح باب “ادرؤوا الحدود بالشبهات”.
- في القصاص: يفتح باب العفو على مصراعيه ويجعله الخيار الأفضل: “فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ“ (البقرة: 178).
وبالتالي، يتضح أن التشريع وُجد ليرحم الإنسان ويحفظه، لا ليُعنّته ويشقيه.
الرحمة كـ “سلوك”.. النموذج النبوي المتجسد
لم تكن الرحمة في الإسلام مجرد نصوص نظرية، بل كانت تحتاج إلى نموذج بشري يجسدها واقعاً ملموساً. كان هذا النموذج هو النبي محمد ﷺ. القرآن يصف سر نجاح دعوته قائلاً: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ“ (آل عمران: 159). لقد كان هو “الرحمة المُهداة” تمشي على الأرض.
وخلافاً للتصور الشائع، لم تظهر رحمته في مواقف الضعف فقط، بل تجلت في أوج قوته وتمكينه:
- في الطائف (موقف الضعف الظاهري): بعد أن أدمته حجارة أهلها ورفضوه، جاءه ملك الجبال يعرض عليه إهلاكهم. هنا، لم تكن رحمته مجرد “عفو” سلبي، بل كانت “رحمة استراتيجية” ذات رؤية مستقبلية، فقال: “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشريك به شيئاً”. لقد رحم أجيالاً لم تُولد بعد.
- في فتح مكة (موقف القوة المطلقة): دخل مكة منتصراً على من آذوه وحاربوه وقتلوا أصحابه. كان قادراً على الانتقام، لكنه اختار قمة الرحمة والقوة قائلاً: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. هنا تحولت الرحمة من فضيلة شخصية إلى قرار سيادي.
أما في تعاملاته اليومية، فقد كانت رحمته شاملة:
- مع المخطئ: قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، لم يصرخ فيه ولم ينهره، بل انتظر حتى قضى حاجته، ثم علّمه برفق، ووضع المنهج الدعوي الخالد: “إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين”.
- مع الضعفاء والحيوان: رحمته باليتيم والمرأة والمسكين، بل وتعدت ذلك إلى البهيمة. دخل بستاناً فإذا جمل يذرف الدموع ويشتكي إليه سوء معاملة صاحبه، فدعا صاحبه وقال له: “أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟”.
لقد كانت سيرته تجسيداً حياً لكون الرحمة في الإسلام ليست خياراً، بل هي هوية ومنهج.
الرحمة كـ “حضارة”.. حين يتحول الجوهر إلى نظام
عندما فقه المسلمون الأوائل هذا الجوهر، لم يطبقوه كأفراد منعزلين فحسب، بل حوّلوه إلى “نظام اجتماعي” ومؤسسات حضارية قائمة على التراحم في الإسلام. لقد أصبحت الرحمة “بنية تحتية” للمجتمع.
- عمر بن الخطاب والرحمة المؤسسية: موقفه الشهير حين رأى شيخاً يهودياً كبيراً يسأل الناس، فأخذه إلى بيت المال وقال لعامله: “انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم”. وفرض له ولأمثاله ما يكفيهم من بيت مال المسلمين. هذا هو “الضمان الاجتماعي” في أرقى صوره، القائم على الرحمة لا المنّة.
- صلاح الدين والرحمة في الحرب: عند استعادته للقدس، قدم نموذجاً للرحمة في الحرب، فعفا عن الصليبيين وأمّنهم على أرواحهم وممتلكاتهم، في مشهد يتناقض تماماً مع المذابح التي ارتكبت عند احتلال المدينة من قبل.
- نظام الأوقاف (Waqf): ربما يكون نظام الوقف هو التعبير الأنضج عن الرحمة الحضارية. لم تقتصر الأوقاف على بناء المساجد والمدارس، بل تعدتها إلى:
- البيمارستانات (المستشفيات): التي كانت تعالج المرضى مجاناً، بغض النظر عن دينهم أو عرقهم.
- أوقاف إطعام الحيوانات: خُصصت أوقاف لرعاية القطط والكلاب الضالة.
- أوقاف كسر الأواني: وهو من أرق صور الرحمة النفسية، حيث خُصص وقف لتعويض الخدم والجواري الذين يكسرون الأطباق غالية الثمن، خوفاً عليهم من غضب أسيادهم.
لقد أثبت التاريخ أن الرحمة في الإسلام حين تُفهم كجوهر، فإنها تبني حضارة إنسانية فريدة.
الرحمة كـ “تحدٍ”.. مواجهة قسوة العصر
نحن نعيش اليوم في عصر “الشعارات” بامتياز. يسهل رفع شعار الدين، ولكن يصعب تجسيد “جوهر الرحمة”. يواجه هذا الجوهر الأصيل تحديات ضخمة:
- الغلو والتطرف: التحدي الأكبر هو اختطاف اسم الإسلام لتبرير القسوة والعنف. هذا التشويه هو نقيض مباشر لـ “رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ“، وهو يغذي “الإسلاموفوبيا” أكثر من أي عدو خارجي.
- القسوة الرقمية: في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي، نرى سهولة مريعة في التجريح، والتكفير، والتنمر، والتشهير، وكل ذلك أحياناً تحت ستار “الأمر بالمعروف” أو “الدفاع عن الدين”. لقد نسي هؤلاء البصيرة القرآنية “وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ“ (النحل: 125).
- أزمة التسامح: الخلط الفادح بين “الثبات على الحق” و”القسوة على الخلق”. الرحمة في الإسلام لا تعني التنازل عن المبادئ، بل تعني “الإنسانية” في عرضها، والرفق في التعامل مع المخالف، واستيعاب أن “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة: 256).
إن العودة للجوهر تعني أن الرحمة اليوم تتمثل في التسامح الفكري، والتعايش الإنساني، والكلمة الطيبة، وأن يكون المسلم “رحمة” في بيته، وعمله، ومع جيرانه، وحتى مع من يختلف معه في العقيدة.
“ارحموا من في الأرض..” (الرحمة كطريق نجاة)
إن الرحمة في الإسلام ليست خياراً تكميلياً أو فضيلة أخلاقية تُضاف إلى قائمة السلوكيات، بل هي “هوية” المسلم الحقيقية، وهي البوصلة التي تضبط كل تشريع وسلوك.
القوة الحقيقية ليست في الغلظة والفظاظة، فالله قد حذر نبيه منها: “وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ“ (آل عمران: 159). إن كان هذا الخطاب لـ “الرحمة المهداة”، فكيف بنا نحن؟
إن استعادة “جوهر” الرحمة من تحت ركام الشعارات والمظاهر الشكلية، هو طوق النجاة الحقيقي لهذه الأمة وللعالم أجمع. وإذا أردنا أن نكون بحق “أمة محمد ﷺ”، فيجب أن نكون أولاً “أمة رحمة”. وكما قال هو، واضعاً القانون الذهبي للتراحم:
“الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”.
