هل يمكن للخوف أن يكون مُعديًا؟ ليس بالمعنى الفيروسي، بل كفكرة تنتقل بسرعة البرق بين العقول، محوّلة مجموعة من الغرباء إلى كتلة واحدة من الذعر. هذا بالضبط ما حدث في أحد أكثر مطارات العالم ازدحامًا، مطار هيثرو في لندن، عندما تحول يوم عادي في المبنى رقم 4 إلى حالة فوضى عارمة، ليس بسبب تهديد حقيقي، بل بسبب “شبح” خلقه العقل الجمعي. هذه الظاهرة، المعروفة علميًا باسم الهلع الجماعي أو “المرض النفسي الجماعي”، تكشف عن القوة الهائلة التي يمتلكها عقلنا وقابليته للتأثر بمن حولنا، خاصة في بيئات مشحونة بالتوتر.
شرارة في بيئة متوترة: تفاصيل حادثة هيثرو
لم يبدأ الأمر بانفجار أو إنذار واضح، بل بشكوى فردية سرعان ما تضخمت. شعر أحد المسافرين بضيق تنفس وغثيان، ثم ما لبث أن اشتكى شخص آخر قريب منه من أعراض مشابهة. وفي غضون دقائق، ارتفع العدد إلى أكثر من عشرين شخصًا، جميعهم يصفون نفس الأعراض الجسدية: دوار، صعوبة في التنفس، وإعياء عام. كانت الفرضية الفورية وجود تسرب لمواد خطرة.
تبع ذلك استجابة أمنية ضخمة: إخلاء فوري للمبنى، إلغاء عشرات الرحلات، وتدفق سيارات الإسعاف والإطفاء وخبراء المواد الخطرة. لكن بعد ساعات من الفحص الدقيق، كانت النتيجة صادمة: لا يوجد أي أثر لأي مادة كيميائية أو بيولوجية ضارة. الفحوصات الطبية للمصابين أظهرت أنهم جميعًا بحالة جسدية سليمة تمامًا. إذن، ما الذي أسقط كل هؤلاء الأشخاص؟ الجواب كان: عقولهم. لقد كانوا ضحايا لوباء من الهستيريا الجماعية.
التحليل النفسي: لماذا يُعتبر المطار أرضًا خصبة للهلع؟
لم تكن حادثة هيثرو مجرد صدفة، بل كانت نتيجة اجتماع عوامل نفسية وبيئية جعلت من المطار مسرحًا مثاليًا لهذه الدراما. لفهم ذلك، يجب أن ندرك أن المطارات هي بطبيعتها “مراجل ضغط” نفسية. تشير الإحصائيات إلى أن القلق المرتبط بالسفر (Aviophobia and travel anxiety) يؤثر على نسبة كبيرة من المسافرين. هذا التوتر الأساسي ينبع من:
- فقدان السيطرة: أنت تحت رحمة شركة الطيران، إجراءات الأمن، ومواعيد الإقلاع. هذا الشعور بالعجز يضع جهازك العصبي في حالة تأهب.
- الازدحام والضوضاء: العقل البشري مبرمج على الشعور بالخطر في الأماكن المكتظة والغريبة. هذا الحمل الحسي الزائد يرهق قدرتنا على التفكير المنطقي.
- الخوف من المجهول: الخوف من فوات الطائرة، فقدان الأمتعة، أو حتى الخوف من الطيران نفسه، كلها تخلق خلفية من القلق المستمر.
في بيئة كهذه، يكون العقل مستعدًا لتصديق أسوأ السيناريوهات. عندما ظهرت الأعراض الأولى على شخص ما، عملت كـ”دليل اجتماعي” (Social Proof) للآخرين. عقولهم القلقة ترجمت هذا المشهد كالتالي: “إذا كان هذا الشخص مريضًا، وأنا أشعر بالتوتر، فربما أنا مريض أيضًا”. هذه الظاهرة، التي تُعرف في علم النفس بـاضطراب التحويل (Conversion Disorder)، يقوم فيها العقل بتحويل الضغط النفسي الشديد إلى أعراض جسدية حقيقية وملموسة. أنت لا تتظاهر بالمرض، بل تشعر به فعلًا لأن عقلك أمر جسدك بذلك.
اقرأ أيضاً:
الهلع الجماعي في عصر المعلومات الفورية
ما يزيد الأمر تعقيدًا في عالمنا اليوم هو سرعة انتشار المعلومات، سواء كانت صحيحة أم خاطئة. في الماضي، كانت حوادث الهستيريا الجماعية (مثل “طاعون الرقص” في عام 1518) تنتشر ببطء عبر التواصل المباشر. أما اليوم، فيمكن لتغريدة واحدة أو رسالة واتساب أن تنشر الخوف بين الآلاف في ثوانٍ. في حادثة هيثرو، من المرجح أن رؤية المسافرين لبعضهم البعض وهم يسقطون، وسماعهم للهمسات والشائعات، قد فاقم الوضع بشكل كبير. إننا نعيش في عصر أصبحت فيه “عدوى المشاعر” أسرع وأكثر فاعلية من أي وقت مضى، مما يجعلنا أكثر عرضة لنوبات الهلع الجماعي المستقبلية.

نظرة مستقبلية: كيف نحصّن أنفسنا والمجتمعات؟
إن حادثة هيثرو ليست مجرد قصة غريبة، بل هي جرس إنذار. فهي تُظهر أن البنية التحتية للأمن الجسدي لا تكفي إذا لم نولِ اهتمامًا للأمن النفسي الجمعي. إذًا، ماذا يخبئ المستقبل؟
- على المستوى المؤسسي: يجب على المطارات والسلطات تطوير بروتوكولات للتعامل مع “الإنذارات النفسية”. يتضمن ذلك تدريب الموظفين على التعرف على بوادر الهلع الجماعي، واستخدام قنوات اتصال رسمية وسريعة لبث الطمأنينة وتقديم معلومات دقيقة وشفافة للجمهور، مما يقطع الطريق على الشائعات.
- على المستوى الشخصي: التأثير الأكبر على القارئ هو إدراك قوة عقله. الوعي بوجود هذه الظاهرة يمكن أن يكون خط الدفاع الأول. عندما تجد نفسك في موقف مشابه، خذ لحظة للتنفس والتفكير بمنطق: “هل هناك دليل مادي على وجود خطر، أم أنني أتأثر بقلق الآخرين؟”. إن تطوير المرونة النفسية والقدرة على التفكير النقدي تحت الضغط هو المهارة الأهم في عالمنا المزدحم والمترابط.
في النهاية، ما حدث في مطار هيثرو يثبت أن أكبر تهديد نواجهه أحيانًا ليس كامنًا في العالم الخارجي، بل في عقولنا. وفهم هذه الحقيقة هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمعات أكثر وعيًا وصلابة في مواجهة أوبئة الخوف غير المرئية.