تخيل أنك تجري مكالمة هاتفية حساسة في غرفة مغلقة، معتقدًا أن جدران الخصوصية تحميك. أنت لم تقم بتثبيت أي تطبيقات مشبوهة، وهاتفك مؤمّن بأحدث برامج الحماية. لكن، ماذا لو كان التهديد لا يكمن داخل هاتفك، بل في الهواء من حولك؟ ماذا لو كانت هناك تقنية قادرة على التنصت على الهاتف الخاص بك دون اختراقه، فقط من خلال “الاستماع” إلى اهتزازاته الصامتة؟ هذا ليس خيالًا علميًا، بل هو واقع جديد ومقلق كشف عنه باحثون في مجال الأمن السيبراني.
إن المحادثات التي نعتقد أنها الأكثر خصوصية قد تكون في الواقع الأكثر عرضة للكشف بطرق لم نتخيلها من قبل. لذلك، دعنا نتعمق في كيفية عمل هذه التقنية المذهلة، وما تعنيه لمستقبل أمننا الرقمي.
ما وراء الصوت: عندما يقرأ الرادار اهتزازات هاتفك خلسة
عندما تتحدث عبر هاتفك، يقوم مكبر الصوت الصغير في سماعة الأذن بتحويل الإشارات الكهربائية إلى موجات صوتية عبر إصدار اهتزازات دقيقة للغاية. هذه الاهتزازات، رغم أنها غير محسوسة لنا، هي البصمة المادية لصوت محدثك. هنا يأتي دور تقنية WirelessTap التي طورها باحثون في جامعة بنسلفانيا.
ببساطة، يستخدم هذا النظام مستشعر رادار يعمل بالموجات المليمترية (mmWave) – وهي نفس التقنية المستخدمة في أنظمة مساعدة السائق في السيارات الحديثة ومستشعرات الحركة المنزلية – لإرسال حزمة من موجات الراديو نحو الهاتف المستهدف. عندما تصطدم هذه الموجات بسماعة الأذن المهتزة، فإنها ترتد مرة أخرى إلى المستشعر حاملة معها تغييرات طفيفة تعكس نمط تلك الاهتزازات.
لكن هذه البيانات المرتدة تكون مجرد ضوضاء غير مفهومة. وهنا يظهر الدور المحوري للذكاء الاصطناعي. حيث قام الباحثون بتدريب نسخة مخصصة من نموذج OpenAI’s Whisper، وهو نظام متطور للتعرف على الكلام، لتحليل هذه “الضوضاء الاهتزازية” وفك تشفيرها، ومن ثم تحويلها مرة أخرى إلى كلمات وجمل مفهومة.
مثال عملي: تخيل أنك تنقر على طبلة بإيقاع معين، ويقوم شخص في غرفة أخرى بتوجيه ضوء ليزر على سطح الطبلة. من خلال مراقبة اهتزاز بقعة الضوء المنعكسة، يمكنه معرفة الإيقاع الذي تعزفه تمامًا. يعمل WirelessTap بنفس المبدأ، لكن باستخدام موجات الراديو بدلاً من الضوء، والهاتف بدلاً من الطبلة.
ليست مجرد نظرية: دقة مقلقة ومستقبل غامض
قد يبدو الأمر معقدًا، لكن النتائج الأولية مثيرة للقلق. على الرغم من أن التقنية لا تزال في مراحلها الأولى، إلا أنها حققت نسبة نجاح في التعرف على الكلمات تصل إلى 60% من مسافة 3 أمتار. قد لا تبدو هذه النسبة مثالية، ولكن في عالم مراقبة المكالمات والتجسس، يمكن أن يكون الحصول على 60% من محادثة حساسة كافيًا لكشف أسرار تجارية أو معلومات شخصية خطيرة.
علاوة على ذلك، يشير الباحثون إلى أن دقة النظام يمكن تحسينها بشكل كبير عبر إضافة “السياق” للمحادثة، تمامًا كما يفعل قارئو الشفاه المحترفون. فإذا كان المهاجم يعرف موضوع المحادثة، يمكن للذكاء الاصطناعي ملء الفجوات بدقة أعلى بكثير. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو إمكانية تصغير مستشعر الرادار ليناسب أشياء يومية مثل قلم أو كوب قهوة، مما يجعل عمليات التنصت على الهاتف سرية للغاية وشبه مستحيلة الكشف.
السلاح ذو الحدين للذكاء الاصطناعي
إن هذه الدراسة لا تكشف عن ثغرة أمنية في هواتفنا بقدر ما تسلط الضوء على الطبيعة المزدوجة للتقدم التكنولوجي، وخصوصًا الذكاء الاصطناعي. إن نموذج Whisper الذي تم استخدامه في هذا الهجوم هو نفسه الذي يقدم خدمات جليلة في نسخ المحاضرات ومساعدة ضعاف السمع. وبالتالي، فإن الأداة نفسها يمكن أن تكون أداة تمكين أو أداة تجسس، وهذا يعتمد كليًا على نوايا المستخدم.
هذا يضعنا أمام حقيقة لا مفر منها: كلما أصبحت أنظمتنا أكثر ذكاءً وقدرة على فهم عالمنا، زادت قدرتها على استغلاله بطرق غير متوقعة. إن السباق الآن ليس فقط بين المخترقين والمدافعين، بل هو سباق لتطوير أطر أخلاقية وتشريعية تواكب سرعة الابتكار لمنع استخدام هذه الأدوات القوية في إيذاء الناس.
كيف نحمي أنفسنا في عالم يزداد شفافية؟
في مواجهة مثل هذه التهديدات المادية، تبدو الحلول البرمجية التقليدية محدودة. ومع ذلك، لا يزال هناك مجال للابتكار. يمكن لمصنعي الهواتف، على سبيل المثال، تطوير أنظمة تصدر “ضوضاء اهتزازية” مضادة لتشويش الإشارة التي يلتقطها الرادار.
ولكن حتى ذلك الحين، يبقى الوعي هو خط الدفاع الأول. إن الهدف الأساسي من هذه الدراسة، كما ذكر الباحثون، هو “رفع مستوى الوعي العام”. عندما تجري مكالمة حساسة، فكر في بيئتك. هل أنت في مكان عام مزدحم؟ هل هناك أجهزة غير معروفة بالقرب منك؟ قد يبدو الأمر مبالغًا فيه الآن، ولكنه قد يصبح إجراءً أمنيًا ضروريًا في المستقبل القريب.
في الختام، تقنية WirelessTap هي جرس إنذار يوضح أن خصوصيتنا ليست مجرد بيانات رقمية على خادم بعيد، بل هي أيضًا فيزياء الاهتزازات والموجات التي تحيط بنا. ومع استمرار تطور التكنولوجيا، يجب أن يتطور فهمنا للتهديدات المحتملة، وأن نكون أكثر حذرًا في حماية أثمن ما نملك: خصوصية محادثاتنا.
المصدر:
دراسة باحثين من “جامعة بنسلفانيا” منشورة في دورية “Proceedings of WiSec”.
الأسئلة الشائعة:
1. ما هي تقنية WirelessTap وكيف تعمل؟
هي تقنية تجسس تستخدم رادار الموجات المليمترية (mmWave) لالتقاط الاهتزازات الدقيقة لسماعة أذن الهاتف أثناء المكالمة، ثم تستخدم الذكاء الاصطناعي لترجمة هذه الاهتزازات إلى كلام مسموع، مما يسمح بالتنصت على المكالمة عن بعد.
2. ما مدى دقة وفعالية هذه التقنية حاليًا؟
حاليًا، تصل دقة التقنية إلى حوالي 60% في التعرف على الكلمات وتعمل ضمن نطاق يصل إلى 3 أمتار. ورغم أنها ليست مثالية بعد، إلا أنها تمثل إثباتًا خطيرًا للمفهوم يمكن تطويره في المستقبل.
3. هل يمكن لهذه التقنية اختراق هاتفي أو تثبيت برامج عليه؟
لا، هذه التقنية لا تخترق برمجيات الهاتف على الإطلاق. إنها هجوم مادي يعتمد على التقاط إشارات فيزيائية (الاهتزازات) من الجهاز نفسه، مما يجعل اكتشافه ببرامج مكافحة الفيروسات التقليدية مستحيلًا.
4. من هم الأكثر عرضة لخطر التنصت على الهاتف بهذه الطريقة؟
الأشخاص الذين يجرون محادثات حساسة مثل رجال الأعمال، الصحفيين، المسؤولين الحكوميين، والناشطين هم الأكثر عرضة. ومع انخفاض تكلفة هذه التكنولوجيا، قد تصبح متاحة لجهات فاعلة أقل تطورًا في المستقبل.
5. كيف يمكنني حماية نفسي من هذا النوع من التهديدات؟
حاليًا، أفضل حماية هي الوعي البيئي. تجنب إجراء المكالمات الحساسة في أماكن عامة أو غير آمنة. في المستقبل، قد تظهر حلول تقنية مثل الهواتف التي تصدر اهتزازات مضادة للتشويش على إشارات الرادار.