في بداية الحديث عن الحاسوب الكمي الصيني، دعونا نتخيل عالما تُحَلّ فيه مسائل معقدة كانت تتطلب من الحواسيب التقليدية ملايين أو حتى مليارات السنين، في ثوانٍ قليلة فحسب. هذا ليس ضربا من الخيال العلمي، بل إنجاز علمي حقيقي حققه فريق من جامعة العلوم والتكنولوجيا في الصين، بعد إطلاقهم لمعالج كمومي جديد حمل اسم “زوتشونجزي-3“.
كيف يختلف الحاسوب الكمي الصيني عن الحواسيب التقليدية؟
حين نتحدث عن الحاسوب الكمي الصيني، فنحن نشير إلى نظام يستخدم “الكيوبتات” (البتات الكمية) بدلا من البتات التقليدية 0 أو 1. تتميز الكيوبتات بقدرتها على حمل الحالتين معا في الوقت نفسه، ما يسمح بإجراء عدد هائل من العمليات المتوازية. في المقابل، تقيد الحواسيب الكلاسيكية نفسها بسلسلة خطوات متعاقبة. لأنها تعتمد على البتات المعهودة التي لا تمثل سوى قيمة واحدة في اللحظة الواحدة.
ولتبسيط الفكرة أكثر، يمكن تشبيه البت التقليدي بمفتاح كهرباء إمّا يعمل أو لا يعمل، بينما يشبه الكيوبت مفتاحا “سحريا” يمكنه أن يكون في حالتين معا. هذا التراكب الكمومي إضافة إلى ظاهرة التشابك والضوضاء المنخفضة في زوتشونجزي-3 مكّنته من تجاوز قدرات أقوى الحواسيب التقليدية المتوفرة حاليا.
لماذا زوتشونجزي-3 خطوة مفصلية في التفوق الكمومي؟
“التفوق الكمومي” يعني ببساطة قدرة حاسوب كمومي على حل مشاكل معقدة خلال وقت قصير جدا مقارنة بأي حاسوب كلاسيكي، الذي قد يحتاج إلى آلاف أو حتى ملايين السنين لإجرائها. ومن هنا تبرز أهمية الحاسوب الكمي الصيني: فقد أظهرت نتائج الأبحاث أن أقوى الحواسيب العالمية تحتاج إلى 6 مليارات سنة لإتمام عمليات حسابية معقدة، بينما لا يستغرق زوتشونجزي-3 سوى ثوانٍ معدودة!
السر في قوة الحاسوب الكمي الصيني
يحتوي زوتشونجزي-3 على 105 كيوبتات، وهو رقم كبير يعكس مدى التطور المتسارع في مجال الحوسبة الكمومية. والأهم من ذلك هو نجاح الفريق في تقليل الضوضاء وتحسين زمن التماسك (المدة التي تبقى فيها الكيوبتات محافظة على حالتها الكمومية) ليصل إلى 72 ميكروثانية. يساعد ذلك في تنفيذ عمليات حسابية أكثر دقة وتعقيدا قبل أن تنهار الحالة الكمومية.
كما أنه يتمتع بمعدل دقة 99.9% تقريبا، مما يقلل الحاجة إلى أنظمة تصحيح الأخطاء الكمومية المعقدة. ويشير هذا إلى أن الهندسة المتطورة التي اعتمدها الباحثون قللت تأثيرات البيئة الخارجية التي عادة ما تؤدي إلى تخريب الحسابات الكمومية.
خلفية تاريخية: زوتشونجزي ورحلة الصين مع الحوسبة الكمومية
يرجع اسم هذا الحاسوب إلى عالم الرياضيات الصيني القديم “زوتشونجزي” الذي عُرف بدقته المذهلة في الحسابات الفلكية وتقريب قيمة “باي” (π). لو اطّلع هذا العالم على مفاهيم الحوسبة الكمومية الحديثة، لربما ذُهل من فكرة اعتماد الاحتمالات بدلا من القيم الحتمية، ورؤية مدى سرعة إنجاز الحسابات عندما تصبح الاحتمالات أداة للتقدم بدلا من العقبة.
على خطى هذا العالم، أطلقت الصين سلسلة حواسيب كمومية تحمل الاسم ذاته: زوتشونجزي-1 وزوتشونجزي-2، وصولا إلى هذا الإنجاز الأخير زوتشونجزي-3. ومع كل إصدار، تضيف الصين لبنة جديدة في صرح الحوسبة الكمومية. لتعزز موقعها الرائد في مجال يعتبره الخبراء أساس الثورة التقنية المقبلة.
التطبيقات المستقبلية لـزوتشونجزي-3
لا تتوقف الإنجازات عند حدود نظريات أو معادلات بعيدة عن الواقع، بل إن التطبيقات العملية للحوسبة الكمومية في مجالات الذكاء الاصطناعي والتشفير وتحليل البيانات الهائلة وسلاسل الإمداد اللوجستية وغيرها، أصبحت أقرب إلى التنفيذ الفعلي. ومع هذا الإنجاز المتمثل في الحاسوب الكمي الصيني، ستتسارع تطبيقات لا يمكن للحواسيب التقليدية منافستها فيها.
فمثلا، قد يتمكن زوتشونجزي-3 من تحليل بيانات جينومية هائلة في مجالات الطب، أو إدارة تشفير بيانات معقدة لحماية المعلومات الحساسة. وبذلك قد نرى تطورا دراماتيكيا في الأبحاث العلمية والاقتصادية والعسكرية وكل ما يتعلق بالتقنية.
تحديات وآفاق جديدة
رغم هذا التقدم المذهل، لا يزال هناك عمل كبير في مجال تصحيح الأخطاء الكمومية وتحسين كفاءة التشابك بين الكيوبتات. فالتشابك الكمومي أساس القدرة الحاسوبية الهائلة في أي نظام كمومي، لكن السيطرة عليه تحتاج إلى تقنيات معقدة تحاول منع أي تفاعلات خارجية غير مرغوب فيها.
يعمل فريق زوتشونجزي-3 حاليا على تطوير طرق جديدة لزيادة استقرار الكيوبتات وإطالة زمن التماسك، مع تعزيز التعلم من التجارب السابقة للوصول إلى جيل أقوى من الحواسيب الكمومية. وهذا يفتح الباب أمامنا لرؤية إنجازات مقبلة قد تتجاوز حتى ما نعتبره الآن طفرات علمية.
بهذا، يتضح أن الحاسوب الكمي الصيني زوتشونجزي-3 لا يمثل مجرد إضافة عابرة في عالم التقنية، بل يعدّ ثورة حقيقية قد تعيد تشكيل مستقبلنا العلمي والاقتصادي والتكنولوجي. إذا كانت الحوسبة التقليدية قامت على مبادئ رياضية ثابتة لعقود طويلة. فإن الحوسبة الكمومية بصيغتها الصينية اليوم تنقلنا إلى عالمٍ جديد من “اللا-مستحيل”. حيث تتحول سنوات طويلة من الحسابات إلى ثوانٍ معدودة، ويصير التفوق الكمومي واقعًا ملموسًا لا مجرّد فكرة نظرية.
خلاصة القول: التفوق الكمومي بات على الأبواب، والصين تقود المسيرة نحو مستقبل يحدده من يملك القدرة على تطويع الاحتمالات وفتح آفاق لا متناهية من الإمكانات الحسابية.

[…] عملية نقل آني للمعلومات بين حاسوبين عملاقين يعملان بتقنية الحوسبة الكمية. هذا الإنجاز الفريد لم يعتمد على أي كابلات أو ألياف […]