تخيل أنك تقف أمام واجهة متجر الدوري الأمريكي للمحترفين (NBA) في الجادة الخامسة بمانهاتن، حيث تُعرض منتجات لأساطير الرياضة العالمية. بين قمصان ليبرون جيمس وأحذية مايكل جوردان، تلمح مجموعة أزياء عصرية تحمل اسمًا غير مألوف: EVNTLLY. قد تبدو كعلامة تجارية صاعدة أخرى، لكن خلف هذا الاسم تكمن قصة استثنائية عن ريادة الأعمال للشباب، قصة انطلقت من أحد أفقر أحياء أمريكا لتتحدى كل التوقعات.
هذه ليست حكاية عن الحظ، بل عن تحويل اليأس إلى تصميم، والفوضى إلى فرصة.
شرارة التغيير: حين يصبح التعليم جسرًا للواقع
لم تبدأ القصة في ورشة تصميم أو اجتماع لمستثمرين، بل في فصل دراسي بمدرسة “إيرل مونرو” في البرونكس. كان المؤسس، دان كلوريس، يواجه تحديًا يعرفه كل معلم: طلاب موهوبون لكنهم منفصلون عن المناهج التقليدية التي لا تلامس واقعهم. ففي بيئة مثل البرونكس، حيث تشير الإحصائيات إلى أن الشباب يواجهون معدلات فقر وعنف أعلى من أي مكان آخر في نيويورك، يبدو الحديث عن نظريات الأعمال مجرد ترف.
لذلك، قرر كلوريس كسر القواعد. بدلاً من تلقينهم الدروس، ألقى إليهم بتحدٍ حقيقي: “ابنوا شركتكم الخاصة من الصفر”. لم يكن هذا مجرد مشروع مدرسي، بل كان محاكاة حقيقية لعالم الأعمال، بكل ما فيه من ضغوط ومخاطر ومكافآت. وهكذا، وُلدت فكرة أصبحت فيما بعد علامة EVNTLLY.

من الفوضى إلى الفريق: ولادة هوية من رحم الألم
في البداية، لم يكن الأمر سهلًا. جمع كلوريس 15 طالبًا من خلفيات صعبة، لكل منهم قصته الخاصة مع التحديات. كانت الاجتماعات الأولى، كما هو متوقع، مليئة بالشكوك والخلافات. كيف يمكن لمجموعة مراهقين، بعضهم لم يغادر حيهم قط، أن يبنوا علامة أزياء تنافس في سوق شرس؟
لكن من رحم هذه الفوضى، بدأت تتبلور هوية حقيقية. اختار الطالب غاري ويليامز، الذي أصبح الرئيس التنفيذي، اسم EVNTLLY (تحريف لكلمة Eventually أي “في النهاية”)، كرمز للوصول إلى الهدف رغم كل الصعاب.
الأهم من ذلك، اختاروا اللون البرتقالي ليكون بطل تصاميمهم. هذا الاختيار لم يكن جماليًا فحسب، بل كان رسالة سياسية واجتماعية عميقة. فاللون البرتقالي هو رمز الحركة الوطنية ضد العنف المسلح في أمريكا، وهي قضية لمست حياة كل طالب منهم تقريبًا، حيث فقدوا أصدقاء وأقارب في حوادث إطلاق نار. فجأة، لم يعد المشروع مجرد وسيلة لكسب المال، بل أصبح منبرًا للتعبير عن قضيتهم.
مواجهة العمالقة: دروس لا تُدرس في الكتب
تحولت فصولهم الدراسية إلى قاعات اجتماعات، وتحولت أحلامهم إلى خطط عمل حقيقية. لكن الواقع كان أصعب مما تخيلوا.
- صدمة التكاليف: اكتشفوا أن تصنيع منتجاتهم في الصين، كما تفعل أغلب الماركات، سيكلفهم ضعف المبلغ المتوقع بسبب الرسوم الجمركية. صرخة أحد الطلاب: “سنغرق في الديون إلى الأبد!” لخصت حجم اليأس الذي شعروا به.
- فشل العروض التقديمية: في عروضهم الأولى أمام معلميهم، تجمدوا. ارتبكوا ونسوا ما تدربوا عليه. كان الخوف من التحدث أمام الجمهور أكبر من شغفهم بالفكرة.
- أزمة الثقة بالنفس: جوردي سانتوس، الذي تولى منصب نائب الرئيس، انضم للبرنامج طمعًا في “بيتزا مجانية”، كما اعترف لاحقًا. كان شابًا خجولًا، فقد عمه في حادث إطلاق نار ونشأ بلا أب، ولم يكن يؤمن بقدرته على قيادة أي شيء.
لكن هذه الإخفاقات كانت هي المحفز الأكبر لنموهم. لقد تعلموا أن ريادة الأعمال للشباب لا تتعلق فقط بالأفكار اللامعة، بل بالقدرة على النهوض بعد كل عثرة.
نقطة التحول: قوة العلاقات والإيمان بالذات

وهنا يأتي دور شبكة العلاقات التي بناها مؤسس المدرسة. لم يتركهم يغرقون، بل عرّفهم على شخصيات مؤثرة، من بينهم مفوض الـ NBA آدم سيلفر. هذه اللقاءات لم تجلب لهم التمويل فقط، بل منحتهم الأهم: شعورًا بأن هناك من يؤمن بهم.
شركة Centric Brands، إحدى الشركات الكبرى في عالم الأزياء، تبنت مشروعهم وساعدتهم في التصنيع والتسويق، محولةً حلمهم إلى منتجات ملموسة.
أما جوردي، الشاب الخجول، فقد دفعه زملاؤه ليكون المتحدث الرئيسي في العرض التقديمي الأهم أمام شركة Fanatics المسؤولة عن متاجر الـ NBA. تدرب مرارًا وتكرارًا، حتى أدرك أن القوة ليست في قراءة نص محفوظ، بل في التحدث من القلب. تعلم أن يحوّل ضعفه إلى قصة، وقصته إلى مصدر إلهام.
وفي يوم الحسم، وقف جوردي وزملاؤه أمام المديرين التنفيذيين، ولم يقدموا مجرد ملابس، بل قدموا قصة حقيقية عن الصمود والأمل. كانت النتيجة مذهلة: موافقة فورية على عرض منتجات EVNTLLY في المتجر الرسمي للدوري الأمريكي لكرة السلة.
تحليل خاص: لماذا نجحت هذه التجربة؟
نجاح EVNTLLY ليس مجرد قصة حظ، بل هو نتيجة تقاطع ثلاثة عوامل حاسمة:
- التعليم التجريبي (Experiential Learning): أثبتت التجربة أن التعليم القائم على المشاريع العملية يتفوق على النظريات الجافة، خاصة للشباب الذين يشعرون بالتهميش. عندما يرى الطالب أثر عمله بشكل ملموس، يتحول من متلقٍ سلبي إلى مشارك فاعل في مستقبله.
- ريادة الأعمال الاجتماعية (Social Entrepreneurship): بربط علامتهم التجارية بقضية العنف المسلح، لم يقم الطلاب ببيع منتج فقط، بل باعوا رسالة. هذا أعطى عملهم معنى أعمق وجذب دعمًا أكبر من مجرد مستهلكين، بل من متعاطفين مع قضيتهم.
- قوة الإرشاد (Mentorship): الدعم الذي تلقوه من الخبراء كان حاسمًا. وفقًا لدراسات عديدة، فإن رواد الأعمال الشباب الذين يحصلون على إرشاد وتوجيه تزيد فرص نجاحهم بنسبة تتجاوز 70% مقارنة بأقرانهم.
لقد أثبت هؤلاء المراهقون أن المواهب لا تقتصر على الأحياء الراقية، وأن الإبداع يمكن أن يزدهر في أقسى الظروف إذا وجد البيئة الحاضنة المناسبة.
ماذا نتعلم من قصة EVNTLLY؟
قصة هؤلاء الطلاب تقدم دروسًا عميقة لكل من يحلم بتحقيق شيء كبير:
- حوّل ألمك إلى قوة: استخدم الطلاب معاناتهم مع العنف لتكون مصدر إلهام لعلامتهم التجارية. قصتك الشخصية هي أقوى أصولك.
- التعليم الحقيقي يبدأ عند انتهاء منطقة الراحة: أكبر قفزات النمو تحدث عندما تواجه تحديات حقيقية وتجبر على إيجاد حلول مبتكرة.
- لا تستهن بقوة شبكة العلاقات: النجاح ليس رحلة فردية. اطلب المساعدة، تعلم من الخبراء، وابنِ جسورًا مع من يمكنهم دعم رؤيتك.
- الفشل ليس النهاية، بل هو جزء من البيانات: كل عرض تقديمي فاشل وكل أزمة مالية كانت درسًا قادهم إلى النجاح النهائي.
- ابحث عن صوتك الخاص: كما قال جوردي: “كنت خجولًا جدًا. لكن الآن وجدت صوتي”. ريادة الأعمال للشباب هي في جوهرها رحلة لاكتشاف الذات والثقة بالقدرات الكامنة.
في النهاية، لم يبع هؤلاء الطلاب مجرد قمصان، بل باعوا الأمل وأثبتوا للعالم أن الموهبة لا تعرف عنوانًا، وأن الأحلام يمكن أن تولد في أي مكان، حتى في أفقر شوارع البرونكس.