في خطوة طموحة وجريئة، أطلقت الحكومة التركية مشروع إسكان اجتماعي يُعدّ الأضخم في تاريخ البلاد، بتعهّد بناء 500 ألف وحدة سكنية في كل الولايات الـ81. المشروع لا يقتصر على التملك كما في المشاريع السابقة فقط، بل يطرح لأول مرة في تركيا آلية الإيجار الاجتماعي كخيار ملموس. هذه المبادرة تستهدف كبح ارتفاع أسعار العقار والإيجارات، وتخفيف الأعباء على الأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط.
في هذا المقال، سنعرض تفاصيل المشروع، السياق الذي جاء فيه، التحديات المتوقعة، الأثر المحتمل على المواطنين والاقتصاد، وتحليلي الشخصي مع نظرة مستقبلية.

السياق والأسباب التي أدّت إلى المشروع
أزمة السكن وارتفاع الإيجارات في تركيا
في السنوات الأخيرة، أصبحت أزمة السكن والإيجارات من أبرز الضغوط التي تواجه الأسر التركية. فعلى الرغم من أن المؤشرات الرسمية تشير إلى أن التضخم السنوي تراجع ليُسجّل نحو 33٪ في سبتمبر 2025. إلّا أن سوق الإيجارات ظل بعيدًا عن الانخفاض الفعلي، بل استمر في الصعود بأسعار تفوق بكثير متوسط التضخم.
حسب بيانات البنك المركزي التركي، زاد مؤشر أسعار المساكن (Residential Property Price Index) بمعدل يتراوح بين 30–33٪ سنويًا في بعض المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة.
كما أن سوق الإيجارات سجل معدلات زيادة مرعبة؛ فمثلاً في تقرير من OECD يُشير إلى أن التضخم في الإيجارات بلغ نحو 96.25٪ في الربع الأول من عام ما مقارنة بالربع السابق.
في إسطنبول تحديدًا، أصبح الكثير من العائلات العاملة تجد صعوبة في الوفاء بالإيجار الشهري بسبب ارتفاعه إلى مستويات لم يكن يتخيّلها الكثيرون قبل سنوات.
نتيجة لذلك، تراجع معدل تملك المنازل إلى حوالي 55.8٪ في 2024 — وهو الأدنى منذ نحو 18 عامًا — مقابل نحو 61٪ قبل عقد من الزمن.
كل هذه المعطيات تعكس فجوة كبيرة بين العرض والإسكان الميسور، حيث الطلب كبير لكن القدرة الشرائية تتدهور بسبب التضخم وتراجع قيمة الليرة التركية.
تجارب المشاريع السكنية الحكومية ودور TOKİ
منذ عقود، تُعد هيئة الإسكان التركية TOKİ الجهة المسؤولة عن مشاريع الإسكان الاجتماعي والإعمار، وكانت قد أنجزت بناء ملايين الوحدات في مختلف الولايات، مع التركيز على الفئات المتوسطة والمنخفضة الدخل.
لكن المشاريع السابقة ركّزت غالبًا على التمليك، مع تسهيلات في الدفع، ولم يكن خيار الإيجار الاجتماعي جزءًا منها عادةً. هذا المشروع الجديد يُعدّ تطورًا، لأنه يُدخل مفهوماً جديدًا في المشهد السكني التركي: أن تكون الدولة مطورة ومؤجرة في آن واحد.
كما أن التجارب التي مرت بها تركيا في إعادة الإعمار بعد الزلازل، خصوصًا زلزال فبراير/شباط 2023، شكّلت درسًا عمليًا في كيفية بناء مساكن مقاومة، وتوزيع المشاريع الجغرافية بشكل متوازن. الحكومة أعلنت أنه قد تم تسليم أكثر من 304 ألف وحدة سكنية للمتضررين ضمن برنامج الإعمار.
بمعرفة هذه الخلفية، يمكن فهم أن المشروع الجديد ليس مبادرة عابرة، بل محاولـة لدمج الدروس الماضية والتوسع في البُعدين: العرض الشامل والإيجار الاجتماعي.

تفاصيل المشروع الجديدة وآلية التنفيذ
1. حجم المشروع وتوزيعه الجغرافي
- عدد الوحدات المخطط لبنائها: 500 ألف وحدة سكنية في جميع الولايات الـ81.
- التنفيذ يبدأ في الربع الأخير من العام الجاري، بعد استكمال التحضيرات والتصميمات.
- التوزيع الجغرافي سيكون متوازنًا، مع التركيز على ولايات الأكثر حاجة بل وحتى في المناطق الريفية والزلزالية، لضمان استفادة أوسع وتقليص الفجوة بين المركز والمناطق البعيدة.
2. دمج خيار الإيجار الاجتماعي لأول مرة
من أهم ملامح المشروع أنه لن يعتمد فقط على التمليك، بل سيركّز على إنشاء وحدات للإيجار الاجتماعي طويل الأمد بأسعار مدعومة من الدولة.
- الدولة (عبر TOKİ) ستقوم بدور المؤجر المباشر في بعض المدن — تبدأ التجربة من إسطنبول.
- معايير خاصة ستُحدد للفئات المؤهلة للاستفادة، والأولوية ستكون للأسر الأشد حاجة، مثل ذوي الشهداء وذوي الاحتياجات الخاصة والمتقاعدين والشباب، وأصحاب الدخل المحدود.
- الإيجار يُحدد بسعر أقل من السوق؛ وبعد انتهاء مدة العقد، تُجرى صيانة للوحدة وتُطرح للإيجار من جديد. بهذا الشكل، تستفيد عدة أسر من الوحدة الواحدة على مدى سنوات.
- يُتوقع أن هذا النموذج يوفّر أُسسًا لرقابة على الأسعار في سوق الإيجارات. لأن وجود جهة حكومية توفر وحدات إيجار بسعر مدعوم يعمل كسقف يمكن أن يردع الزيادات العشوائية.
3. التمويل والتنفيذ الزمني
- لم تُكشف حتى الآن كل التفاصيل المالية للمشروع، لكن يُتوقع أن التمويل سيكون مزيجًا بين ميزانيات حكومية وقروض وحدود ائتمانية ميسّرة.
- يُخطط أن يُطرح في مراحل، بحيث تُنجز وحدات أولى في المدن الكبرى، ثم يُعمم على الولايات الأخرى.
- من الممكن أن يُواكب المشروع تعديلًا في تسهيلات القروض العقارية، مثل إطالة مدد التمويل إلى 30 أو 40 أو 50 سنة، بدلاً من المدد القصيرة السائدة حاليًا، لتسهيل التقديم على الوحدات. بالفعل، الحكومة أبدت نيتها في ذلك.

الأثر المحتمل: على المواطن والاقتصاد
تأثير على الأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط
- سيمنح المشروع للعديد من الأسر خيارًا سكنيًا بديلاً عن الإيجار الباهظ الحالي، ما يخفف العبء المالي الشهري.
- مع وجود وحدات للإيجار الاجتماعي، قد ينخفض الضغط على سوق الإيجارات الحرة، مما يؤدي إلى تباطؤ الزيادات أو حتى استقرار أسعار بعض المناطق.
- منح الأولوية للفئات المستحقة يزيد من العدالة الاجتماعية ويُعطي أملًا لمن كانوا محرومين من خيارات السكن الميسور.
تأثير على سوق العقارات والإيجارات
- زيادة العرض السكني بكمية كبيرة قد تقلل الضغوط على سوق الإسكان الحر، خصوصًا في المدن الكبرى التي تشهد ارتفاعًا حادًا في الأسعار.
- مع وجود وحدات إيجار مدعومة، ستُشكل أيضًا معيارًا جديدًا لسعر الإيجار في السوق، قد يحفّز الملاك على ضبط التسعير.
- حسب خبراء الاقتصاد، إذا تم تنفيذ المشروع بسرعة وبشفافية. يمكن أن يُساهم في استقرار سوق الإيجارات وتقليل المضاربة بالعقارات.
التأثير الاقتصادي الكلي
- تنفيذ المشروع سيخلق آلاف فرص العمل في قطاع البناء والمواد المرتبطة به (حديد، إسمنت، تشطيبات، كهرباء، إلخ).
- سيعزز الدخل الفردي في المناطق المعنية، وسيحفز النشاط الاقتصادي المحلي في الولايات الأبعد والمناطق الريفية.
- قد يُشكل المشروع ضغطًا على الميزانية العامة، لكنه يُعد استثمارًا في البنية التحتية الاجتماعية التي تُحقق عوائد اجتماعية طويلة الأجل.
التحديات التي قد تواجه المشروع وكيفية معالجتها

- التنفيذ الزمني والبيروقراطية
على الرغم من الطموح، قد تواجه المشاريع الحكومية تأخيرًا بسبب الإجراءات الإدارية، التصاريح، أو تأخر التوريدات. لتجاوز ذلك، يجب أن تُعطى صلاحيات تنفيذية متسارعة، وتقليل الطبقات الإجرائية. - اختيار المستفيدين بشفافية وعدالة
الأهم هو ضمان أن الوحدات تصل لمن هم فعلاً بحاجة. إذا تم اختيار المستفيدين بطريقة غير شفافة، قد تفشل الصورة الاجتماعية للمشروع. إجراء قرعة علنية، مع معايير واضحة، ومراقبة الجهات المستقلة سيكون ضروريًا. - استدامة نموذج الإيجار الاجتماعي
تحتاج الدولة إلى ميزانية مستمرة لصيانة وإدارة الوحدات المؤجرة، وضمان أن تكون التكلفة التشغيلية مغطّاة. إذا أهملت الصيانة، قد تتدهور الوحدات أو تغدو غير صالحة. - التكاليف المالية والتمويل
التمويل الضخم المطلوب قد يضغط على الخزينة، أو يستدعي اللجوء إلى الاقتراض. من المهم أن يُوزّع التنفيذ على سنوات، وأن تستثمر الدولة في نماذج مشاركة مع القطاع الخاص، أو أدوات تمويلية مبتكرة، مثل السندات العقارية. - مقاومة السوق العقاري والتأثير على الأسعار
بعض الملاك والمطوّرين قد يرون المشروع منافسًا؛ قد يلجؤون لزيادة الأسعار في المناطق التي لا يغطيها المشروع لتعويض الخسائر. التعامل مع ذلك يتطلب رقابة على السوق وسياسات ضريبية مناسبة تدعم الاستقرار العقاري.
نظرة مستقبلية: ماذا يُتوقع وما تأثيره على القارئ؟
إذا نجحت الحكومة في تنفيذ المشروع بكفاءة وشفافية، فقد يشهد المواطنون تغييرات ملموسة في حياتهم السكنية:
- ستكون لديك فرصة للاختيار بين التملك والإيجار الاجتماعي بأسعار مدعومة إذا كنت مؤهلاً.
- قد يهدأ سوق الإيجارات تدريجيًا، مما يوفر استقرارًا ماديًا يتيح لك تخطيطًا أفضل للحياة (الزواج، التعليم، الادخار).
- على المدى البعيد، ستخلق هذه المبادرة بيئة عمرانية أكثر اتزانًا، مع توزيع أفضل للسكان بين المدن الكبرى والولايات الأخرى، وقد تُقلل الفوارق التنموية.
من الناحية الاقتصادية، إذا أدّت هذه المبادرة إلى تباطؤ التضخم العقاري وتحفيز النشاط الاقتصادي في قطاعات البناء، فقد تساهم في تحسين المؤشرات الكلية، مثل النمو، والتشغيل.
لكن المهم هو ألا تبقى المبادرة شعارًا، بل أن تُترجَم إلى واقع على الأرض. فإذا تأخرت أو أُسيء تنفيذها، فإنها قد تغدو مصدر خيبة أمل سياسي واجتماعي.
المصدر:
وسائل الإعلام التركية Daily Sabah وHurriyet Daily News