أهلاً بك في المدونة الأولى من سلسلتنا الجديدة التي سنتتبع فيها خطى خير البشر، ونغوص في أعماق سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بأحداثها وتواريخها الموثقة. هذه ليست مجرد قصة من الماضي، بل هي منارة نستلهم منها القيم والمبادئ لحاضرنا ومستقبلنا.
من هو محمد ﷺ؟ سؤال يتردد عبر التاريخ
من طفل وُلد يتيماً في مكة، إلى قائد غيّر مسار التاريخ، من هو محمد ﷺ؟ هذا السؤال ليس مجرد استفهام تاريخي، بل هو دعوة لاستكشاف رحلة الروح التي شكلت أعظم شخصية في تاريخ البشرية. إن سيرة هذا النبي الكريم، وبشكل خاص المرحلة التأسيسية التي سبقت بعثته، ليست مجرد سرد لأحداث قديمة طواها الزمن، بل هي منبع حي للقيم التي تُلهم حاضرنا وتؤسس لمستقبلنا. في طفولته نجد الصبر في وجه اليتم، وفي شبابه نرى النزاهة المطلقة في عالم المادة، وفي حكمته تتجلى القدرة على حل أعقد النزاعات، وفي زواجه نلمس السكينة والمودة التي هي أساس كل بيت آمن. إنها قصة بناء “الإنسان الكامل” قبل أن يكون “النبي المرسل”، وهي رحلة إعداد إلهي دقيق ومحكم.
لم يكن العالم غافلاً عن هذا الحدث الجلل، بل كانت السماء تمهد لقدوم هذا النور من خلال علامات وإشارات تُعرف في كتب السيرة بـ “الإرهاصات”، وهي الأحداث الخارقة للعادة التي تسبق ظهور نبي. ولعل أعظم هذه الإرهاصات وأوضحها كانت تلك الحادثة التي أرّخ بها العرب زمنهم، حادثة الفيل، التي لم تكن حدثاً معزولاً، بل كانت إعلاناً سماوياً عن قرب بزوغ فجر خاتم المرسلين ﷺ.
الفصل الأول: الميلاد المبارك في عام الفيل
1.1. مكة والعالم قبيل بزوغ الفجر
قبيل ميلاده ﷺ، كان العالم يعيش على صفيح ساخن. كانت الإمبراطوريتان العظيمتان، الفرس والروم، تتنازعان على النفوذ، بينما كانت شبه الجزيرة العربية، الواقعة في قلب طرق التجارة العالمية، غارقة في ظلمات الوثنية والنزاعات القبلية. ورغم ذلك، كانت هذه الصحراء تحمل في طياتها بقايا من الحنيفية، ملة إبراهيم عليه السلام، وتتوق إلى حدث يغير وجه الدنيا. كانت مكة، بوجود الكعبة المشرفة فيها، تمثل مركزاً دينياً واقتصادياً للعرب، يحجون إليها من كل فج عميق.
1.2. حادثة الفيل: حماية إلهية للبيت والنبي
إن العلاقة بين حماية الكعبة في عام الفيل وميلاد النبي ﷺ في العام ذاته ليست مجرد مصادفة زمنية، بل هي ارتباط سببي عميق. لقد كانت هذه الحادثة بمثابة إعلان إلهي بأن هذا البيت محمي ليس لذاته فحسب، بل من أجل الرجل الذي سيولد فيه قريباً ليطهره من الأوثان ويعيد إليه قدسيته الأولى.
بدأت القصة عندما بنى أبرهة الأشرم، الحاكم الحبشي لليمن، كنيسة ضخمة سماها “القُلَّيْس” في صنعاء، وأراد أن يصرف إليها حج العرب بدلاً من الكعبة. وعندما أقدم أحد العرب على تدنيسها، استشاط أبرهة غضباً وعزم على هدم الكعبة. جهز جيشاً جراراً لم تشهد له العرب مثيلاً، ووضع في مقدمته فيلاً ضخماً اسمه “محمود” لإرهاب خصومه. في طريقه إلى مكة، هزم أبرهة كل من حاول صده من القبائل العربية.
وعندما وصل إلى مشارف مكة، استولى جيشه على مائتي بعير كانت ملكاً لعبد المطلب بن هاشم، جد النبي ﷺ وسيد قريش آنذاك. دخل عبد المطلب على أبرهة، وكان رجلاً وسيماً مهيباً، فأُعجب به أبرهة وأجلسه إلى جواره. لكن دهشته كانت عظيمة عندما طلب منه عبد المطلب أن يرد عليه إبله فقط، ولم يكلمه في شأن الكعبة التي جاء لهدمها. فقال له أبرهة مستنكراً: “أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه؟”. هنا، نطق عبد المطلب بكلماته الخالدة التي تنضح يقيناً وثقة بالله: “إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًّا سيمنعه.”.
في صبيحة اليوم التالي، وعندما وجه أبرهة جيشه وفيله نحو الكعبة، برك الفيل على الأرض ورفض التقدم. كلما وجهوه نحو اليمن أو الشام قام يهرول، وإذا وجهوه نحو الكعبة ربض. وفيما هم على هذه الحال، أرسل الله عليهم طيراً أتت من جهة البحر في جماعات متتابعة (أبابيل)، يحمل كل طائر منها ثلاثة أحجار صغيرة، حجر في منقاره وحجران في رجليه. كانت هذه الحجارة، على صغرها، إذا أصابت أحدهم هلك وتناثر لحمه. وهكذا أبيد الجيش عن بكرة أبيه، وجعلهم الله “كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ” كما ورد في سورة الفيل التي خلدت هذا النصر الإلهي. لقد رفعت هذه الحادثة من شأن قريش ومكة في عيون العرب، وهيأت المسرح لظهور الرسالة العالمية من هذا المكان الذي حماه الله بنفسه.
1.3. النسب الشريف: كنانة، قريش، بنو هاشم
ينتمي النبي محمد ﷺ إلى أشرف أنساب العرب وأطهرها، فهو خلاصة بني هاشم، وبنو هاشم خلاصة قريش، وقريش خلاصة كنانة، وكنانة خلاصة ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وقد قال ﷺ: “إنَّ الله عزَّ وجلَّ اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم”.
سلسلة الذهب: نسبه الشريف المتفق عليه بين جميع علماء السير والأنساب هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (واسمه شيبة الحمد) بن هاشم (واسمه عمرو) بن عبد مناف (واسمه المغيرة) بن قصي (واسمه زيد) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر (وهو الذي تُنسب إليه قريش) بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وهذا النسب إلى عدنان هو “معلوم الصحة، متفق عليه بين النسّابين، ولا خلاف فيه ألبتة”، أما ما فوق عدنان ففيه اختلاف، ولذلك ورد في بعض الآثار التوقف عنده.
وكان أجداده سادة أقوامهم، فجده هاشم هو الذي سن رحلتي التجارة لقريش في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام، وسُمي هاشماً لأنه أول من هشم (فتّ) الثريد وأطعم أهل مكة في عام مجاعة. وجده عبد المطلب هو سيد قريش الذي أعاد حفر بئر زمزم بعد أن دُفنت، وهو صاحب الموقف المشهور مع أبرهة. أما والده
عبد الله، فقد كان أحب أبناء عبد المطلب إليه وأجملهم، وهو “الذبيح الثاني” بعد جده إسماعيل، حيث نذر عبد المطلب أن يذبح أحد أبنائه إن رزقه الله عشرة، فوقعت القرعة على عبد الله، ففداه بمئة من الإبل.
1.4. المولد ويومه
أجمع المؤرخون وأهل السير أن مولده المبارك كان في عام الفيل، أي في عام 571م. كما صح أنه وُلد يوم الإثنين. أما تحديد اليوم والشهر، فقد وردت فيه روايات متعددة، أرجحها وأشهرها ما ذهب إليه ابن إسحاق.
وقد صاحب مولده الشريف علامات مباركة، أشهرها ما روته أمه السيدة آمنة من أنها رأت نوراً خرج منها عند ولادته أضاء لها قصور بصرى في الشام.
الفصل الثاني: النشأة والطفولة: رعاية الرحمن في كنف اليتم
2.1. اليتم المبكر وحكمته
شاءت حكمة الله تعالى أن ينشأ نبيه ﷺ يتيماً، لتكون رعايته إلهية خالصة. فقد توفي والده عبد الله وهو ما يزال جنيناً في بطن أمه، حيث كان في رحلة تجارية إلى الشام، وفي طريق عودته مرض ومات في المدينة عند أخواله بني النجار ودُفن هناك. ثم لم تلبث والدته الحنون آمنة بنت وهب أن لحقت به، حيث توفيت وهو في السادسة من عمره في مكان يسمى “الأبواء” بين مكة والمدينة، وهي عائدة به من زيارة قبر أبيه وأخواله.
إن هذا اليتم المبكر لم يكن مصادفة، بل كان جزءاً من التربية الربانية له ﷺ. لقد أراد الله أن يكون الفضل في إعداده لله وحده، فلا يَدَّعي مُدَّعٍ أن محمداً تعلم دعوته من أبيه أو جده، أو أن رسالته كانت امتداداً لسلطان عائلي. نشأ يتيماً ليعتمد على الله وحده، ولتترسخ في قلبه الشريف أسمى معاني الرحمة والشفقة على كل يتيم وضعيف، وليكون هو نفسه المأوى الذي قال الله فيه: “أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ”.
2.2. في بادية بني سعد: نقاء الفطرة وفصاحة اللسان
كانت فترة إقامته في بادية بني سعد وحادثة شق الصدر بمثابة مرحلتين متكاملتين في إعداده. فالبادية مثلت البيئة المثالية لصقل طبيعته البشرية بأفضل صورها، من خلال نقاء اللغة وقوة البدن وصفاء الفطرة. ثم جاءت حادثة شق الصدر كتدخل إلهي مباشر لتطهير طبيعته الروحية، وجعلها وعاءً نقياً مؤهلاً لاستقبال الوحي الإلهي.
جرياً على عادة أشراف قريش في البحث عن مرضعات لأبنائهم في البادية، لتقوى أجسامهم وتفصح ألسنتهم، استُرضع النبي ﷺ في بني سعد. وقد حلت البركة على بيت مرضعته حليمة السعدية منذ اللحظة التي دخل فيها بيتها. فبعد أن كان ثديها جافاً لا يكفي ابنها، درّ باللبن حتى شرب هو وأخوه من الرضاعة حتى رويا. وبعد أن كانت شياههم لا تجد لبناً، أصبحت تعود شباعاً ممتلئة الضروع. وحتى أتانها (أنثى الحمار) الهزيلة، أصبحت تسبق كل ركاب القافلة.
وفي هذه الفترة، وهو في الرابعة أو الخامسة من عمره، وقعت له حادثة شق الصدر العظيمة. فبينما كان يلعب مع الغلمان، أتاه ملكان في هيئة رجلين عليهما ثياب بيض (وفي رواية أنه جبريل عليه السلام)، فأخذاه وصرعاه أرضاً، ثم شق أحدهما عن صدره واستخرج قلبه، فأخرج منه قطعة دم سوداء (علقة) وقال: “هذا حظ الشيطان منك.”. ثم غسلا قلبه في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاداه إلى مكانه. عاد الغلمان يصرخون إلى حليمة قائلين: “إن محمداً قد قُتل”. فخرجت هي وزوجها فوجداه متغير اللون. وبعد هذه الحادثة، خشيت عليه حليمة وأعادته إلى أمه في مكة.
2.3. في كنف الجد والعم
بعد وفاة أمه وهو في السادسة، انتقل إلى كفالة جده عبد المطلب، الذي رقّ له رقة لم يرقها لأحد من أبنائه. كان يحبه حباً عظيماً، ويجلسه على فراشه الخاص في ظل الكعبة، ويمسح على ظهره، ويقول لأعمامه: “دعوا ابني هذا، فوالله إن له لشأناً”.
لكن هذه الرعاية الحانية لم تدم طويلاً، فما لبث عبد المطلب أن توفي والنبي ﷺ في الثامنة من عمره. وقبل وفاته، أوصى به إلى عمه أبي طالب، شقيق والده عبد الله. فقام أبو طالب بحق ابن أخيه خير قيام، وضمه إلى أولاده وقدمه عليهم، وأحاطه برعاية وحب لا مثيل لهما. واستمرت هذه الكفالة وهذا العطف حتى بعد أن كبر محمد ﷺ وأصبح نبياً، حيث كان أبو طالب هو الحصن المنيع الذي دافع عنه في وجه أذى قريش.
الفصل الثالث: الشباب الطاهر: “الصادق الأمين”
إن حياة النبي ﷺ قبل البعثة هي الحجة الأقوى على صدق رسالته. فقبل أن يقدم للبشرية معجزات إلهية، قدم لهم معجزة إنسانية: أربعون عاماً من الشخصية الكاملة التي لا تشوبها شائبة. لم يكن لقبه “الصادق الأمين” مجرد وصف، بل كان شهادة اعتماده الأولى. وعندما وقف على جبل الصفا وسألهم: “لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟”، كان ردهم “نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً” هو الأساس المنطقي الذي قامت عليه دعوته بأكملها. لقد كانت عصمته الأخلاقية هي التمهيد الضروري لعصمته كنبي.
3.1. العمل والمسؤولية المبكرة
لم ينشأ ﷺ عالة على أحد، بل تعلم الاعتماد على نفسه منذ صغره.
- رعي الغنم – مدرسة الأنبياء: في بداية شبابه، عمل في رعي أغنام أهل مكة مقابل أجر زهيد (قراريط). وفي هذا العمل حكمة إلهية بالغة، فقد قال ﷺ: “ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم.”. فرعاية الغنم تعلم الراعي الصبر، والرحمة بالمخلوقات الضعيفة، واليقظة، والمسؤولية، وهي كلها صفات أساسية للقائد الذي سيرعى شؤون أمة. كما أن قضاء الوقت في الخلاء يفتح المجال للتفكر والتأمل في عظمة خلق الله.
- التجارة ولقاء بحيرا الراهب: عندما بلغ الثانية عشرة من عمره، خرج مع عمه أبي طالب في رحلة تجارية إلى الشام. وفي منطقة “بصرى” بالشام، مر الركب بصومعة راهب نصراني يُدعى بحيرا. كان هذا الراهب عالماً بالكتب المقدسة، فلمح في القافلة علامات غير عادية. فقد رأى غمامة تظلل غلاماً بعينه أينما سار، ورأى أغصان شجرة تميل لتظلله عندما جلس تحتها. فصنع لهم طعاماً ودعاهم جميعاً، ثم تفحص الغلام محمد ﷺ، وسأله عن أحواله، فوجدها توافق ما عنده من أوصاف النبي المنتظر في كتبهم. ثم كشف عن ظهره فرأى
خاتم النبوة بين كتفيه، وهو علامة جسدية مميزة. حينها، أخذ بيد عمه أبي طالب وقال له: “إن ابن أخيك هذا سيد العالمين… فارجع به إلى بلدك واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً”. فأسرع به أبو طالب عائداً إلى مكة.
3.2. الأخلاق التي سبقت الرسالة
- لقب “الصادق الأمين”: قبل أن ينزل عليه الوحي، كان قد نزل في قلوب أهل مكة بلقب لم يسبقه إليه أحد: “الصادق الأمين”. لقد كان هذا اللقب شهادة إجماع من مجتمع بأكمله، عدوه وصديقه، على استقامته المطلقة وصدقه الذي لا يتزعزع وأمانته التي لا تُخان. حتى إن قريشاً، التي ستكذبه لاحقاً في دعوته، كانت لا تأتمن على ودائعها وأموالها إلا هو.
- شهادة الأعداء: إن أصدق شهادة هي التي تأتي من الخصم. وقد شهد له ألد أعدائه بصدقه. فهذا أبو جهل، فرعون هذه الأمة، سأله أحدهم: “هل محمد صادق أم كاذب؟” فقال: “ويحك! والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟!”. وهذا
أبو سفيان، قائد المشركين في حروبهم ضد الإسلام، عندما سأله هرقل ملك الروم وهو لا يزال على شركه: “هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟”، لم يملك إلا أن يجيب: “لا”. فاستنتج هرقل بحكمته: “فقد عرفت أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله.”. - حلف الفضول – نصرة المظلوم: في شبابه، شهد النبي ﷺ حلفاً عُقد في دار عبد الله بن جدعان، تعاهدت فيه بطون من قريش على أن يكونوا يداً واحدة مع أي مظلوم في مكة، سواء كان من أهلها أو غريباً، حتى يُرد إليه حقه. وقد ظل هذا الحلف مفخرة في نفسه، حتى قال بعد الإسلام: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حُمْر النَّعَم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت.”. وهذا يدل على فطرته السليمة التي تميل إلى العدل ونصرة الحق منذ نعومة أظفاره.
3.3. حكمة تفصل النزاع: إعادة بناء الكعبة
عندما بلغ ﷺ الخامسة والثلاثين من عمره، تعرضت الكعبة لسيل جارف أدى إلى تصدع جدرانها، فأجمعت قريش على إعادة بنائها. وكي يكون عملهم مباركاً، اشترطوا ألا يدخلوا في بنائها إلا مالاً طيباً حلالاً، فابتعدوا عن مهر البغي وربا الظلم. شارك النبي ﷺ بنفسه في نقل الحجارة مع أعمامه.
ولما وصل البناء إلى موضع الحجر الأسود، ثار نزاع شديد بين القبائل، فكل قبيلة أرادت أن تنال شرف رفع الحجر ووضعه في مكانه، واشتد الخلاف حتى كادوا يقتتلون. ومكثوا على ذلك أربع أو خمس ليال، ثم ارتضوا أن يحكّموا بينهم أول شخص يدخل عليهم من باب المسجد (باب بني شيبة). فشاء الله أن يكون أول داخل هو محمد ﷺ. فلما رأوه، هللوا جميعاً قائلين: “هذا الأمين، رضينا به حكماً”.
فأظهر حكمة بالغة حسمت النزاع. طلب رداءً فبسطه على الأرض، ثم وضع الحجر الأسود وسطه بيده الشريفة. ثم قال: “لتأخذ كل قبيلة بطرف من أطراف هذا الرداء”. ففعلوا، ورفعوه جميعاً حتى بلغوا به موضعه. عندئذ، تقدم هو ﷺ فأخذه بيده ووضعه في مكانه، وبذلك نالت كل القبائل شرف المشاركة، وحُقنت الدماء التي كادت أن تسيل.
3.4. حياته اليومية وأصحابه
كانت حياته اليومية مثالاً للعفة والاستقامة. وقد عصمه الله من كل أقذار الجاهلية، فلم يسجد لصنم قط، ولم يشرب خمراً، ولم يشارك في لهو الشباب الطائش. وقد روي عنه أنه قال إنه همّ مرتين في شبابه بحضور سمر (حفل ليلي) كما يفعل فتيان مكة، وفي كل مرة كان الله يضرب على أذنه فينام، فلا يوقظه إلا حر الشمس، فما عاد بعدها لمثلها أبداً.
أما أصحابه ورفقاؤه، فقد كانوا من خيرة شباب قريش وأرجحهم عقلاً وأحسنهم خلقاً. وكان على رأسهم وأقربهم إلى قلبه صديقه الصدوق أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، الذي كان رفيقه الملازم له قبل البعثة وبعدها، والذي لم يتلعثم لحظة في تصديقه عندما جاءه بالرسالة.
الفصل الرابع: الزواج المبارك من السيدة خديجة رضي الله عنها
لم يكن زواج النبي ﷺ من السيدة خديجة رضي الله عنها مجرد اتحاد اجتماعي، بل كان تدبيراً إلهياً ورزقاً ربانياً هيأ له أهم أسباب الدعم والثبات قبل مواجهة أعباء الرسالة. لقد وفر له الله من خلال هذا الزواج: الاستقلال المادي الذي أتاح له وقتاً للتعبد والتفكر، والملاذ العاطفي الذي منحه السكينة والطمأنينة، والمكانة الاجتماعية التي عززت من موقعه في مكة. كان هذا الزواج هو الأساس اللوجستي والنفسي الذي ستقوم عليه أركان الدعوة.
4.1. الطاهرة تلتقي بالأمين
كانت السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها سيدة نساء قريش، امرأة تاجرة ذات شرف ومال، اشتهرت في مجتمعها برجاحة العقل والعفة، حتى كان لقبها في الجاهلية “الطاهرة“. كانت تستأجر الرجال ليتاجروا لها في مالها بنظام المضاربة.
بلغها صيت محمد ﷺ، وما اشتهر به من صدق الحديث وعظم الأمانة وكرم الأخلاق، فرغبت في أن تستأمنه على تجارتها. أرسلت إليه تعرض عليه أن يخرج في قافلة لها إلى الشام، ووعدته بأن تعطيه أفضل مما تعطي غيره من التجار. قبل النبي ﷺ العرض بعد استشارة عمه أبي طالب، الذي قال له: “إن هذا لرزق ساقه الله إليك”.
4.2. شهادة ميسرة
أرسلت السيدة خديجة مع النبي ﷺ غلاماً لها اسمه “ميسرة” ليخدمه ويراقب أمانته. عاد ميسرة من الرحلة منبهراً بما رأى. لقد حققت التجارة أرباحاً لم تحققها من قبل، لكن الأهم من ذلك كان ما شهده من كرامات وأخلاق. أخبر سيدته كيف كان يرى ملكين يظللانه من الشمس في وقت الظهيرة، وكيف قابله راهب يُدعى “نسطورا” في بصرى وتنبأ بنبوته، وكيف كانت أمانته في البيع والشراء لا مثيل لها. نقل ميسرة كل هذه المشاهدات إلى السيدة خديجة، فامتلأ قلبها إعجاباً وتقديراً لهذا الشاب الأمين.
4.3. الزواج الذي سَكَنَ به الفؤاد
بعد أن رأت ما رأت من أمانته وبركته، وسمعت ما سمعت من غلامها، أدركت السيدة خديجة أنها أمام رجل لا ككل الرجال. وبمبادرة كريمة وشجاعة، أرسلت صديقتها نفيسة بنت منية لتفاتح النبي ﷺ في أمر الزواج منها. قالت له نفيسة: “يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟” فقال: “ما بيدي ما أتزوج به”. فقالت: “فإن كُفيت ذلك ودُعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟” قال: “ومن هي؟” قالت: “خديجة”. قال: “وكيف لي بذلك؟” قالت: “عليّ”. فوافق النبي ﷺ.
ذهب النبي ﷺ مع أعمامه، وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب، وخطبوها له. تم الزواج المبارك وكان عمره الشريف خمساً وعشرين سنة، بينما كان عمرها أربعين سنة. وقد اختلفت الروايات فيمن كان وليها، فقيل والدها خويلد، وقيل عمها عمرو بن أسد، وهي الرواية الأرجح عند أهل السير، حيث إن والدها كان قد توفي قبل ذلك.
كان هذا الزواج بداية حياة مليئة بالحب والمودة والرحمة. كانت له الزوجة الوفية، والسند القوي، والوزيرة الناصحة. أنجبت له جميع أولاده إلا إبراهيم: القاسم، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة. وقد كانت أول من آمن به وصدقه عندما جاءها يرتجف من غار حراء بعد نزول الوحي، فثبتت فؤاده بكلماتها الخالدة: “كلا والله، لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.”. وفاءً وتقديراً لها، لم يتزوج النبي ﷺ على خديجة في حياتها قط، وظل يذكرها بالخير ويكرم صديقاتها حتى بعد وفاتها بسنوات طويلة.
الإعداد الإلهي لخاتم المرسلين
هكذا، وعلى مدار أربعين عاماً، كانت يد العناية الإلهية ترعى محمداً ﷺ وتهيئه لأعظم مهمة في تاريخ البشرية. كل حدث في حياته قبل البعثة كان لبنة في صرح شخصيته العظيمة. حماية مولده في عام الفيل كانت إعلاناً عن مكانته. يتمه كان تربية له على الاعتماد على الله وحده. نشأته في الصحراء صقلت فطرته ولسانه. شق صدره طهر قلبه. رعيه للغنم علمه الصبر والقيادة. صدقه وأمانته جعلاه موضع ثقة الجميع. حكمته في وضع الحجر الأسود أظهرت قدرته على جمع الكلمة. وزواجه من خديجة وفر له السكن والدعم.
عندما بدأ يختلي بنفسه في غار حراء، متأملاً في ملكوت السماوات والأرض، لم يكن يهرب من مجتمعه، بل كان يستكمل آخر فصول الإعداد الروحي. كان قد وصل إلى قمة النضج الإنساني، بقلبٍ طاهر، وشخصيةٍ موثوقة، وبيتٍ آمن، وروحٍ متطلعة إلى النور. كان الكون كله ينتظر تلك اللحظة التي سينزل فيها جبريل عليه السلام بالكلمة الأولى التي ستغير وجه التاريخ إلى الأبد: “اقْرَأْ”.
في المدونة القادمة، سنتحدث عن مرحلة جديدة في سيرة النبي محمد ﷺ: مابعد البعثة لحتى هجرته للمدينة.
أسئلة شائعة
1. متى وأين ولد النبي محمد ﷺ؟
ولد في مكة المكرمة يوم الإثنين الموافق للثاني عشر من ربيع الأول في عام الفيل (حوالي 571م).
2. لماذا سمي “عام الفيل” بهذا الاسم؟
بسبب محاولة أبرهة الحبشي هدم الكعبة مستخدماً جيشاً يتقدمه فيل، ولكن الله أهلك جيشه بطير أبابيل.
3. من تكفل برعاية النبي محمد بعد وفاة والديه؟
تكفل به جده عبد المطلب أولاً، وبعد وفاته تولى رعايته عمه أبو طالب.
4. أين قضى النبي طفولته المبكرة وما أثر ذلك عليه؟
قضاها في بادية بني سعد عند مرضعته حليمة السعدية، مما أكسبه فصاحة اللسان، قوة البنية، وصفاء الروح.
5. ما هو اللقب الذي اشتهر به النبي في شبابه؟
اشتهر بلقب “الصادق الأمين” لشدة صدقه وأمانته التي شهد بها جميع أهل مكة.
6. ما هو “حلف الفضول” الذي شارك فيه؟
هو حلف تعاهدت فيه بعض قبائل قريش على نصرة أي مظلوم في مكة، سواء كان من أهلها أو من خارجها.
7. كيف حل النبي نزاع وضع الحجر الأسود؟
بحكمته، وضع الحجر في رداء وجعل زعماء القبائل المتنازعة يرفعونه معاً، ثم وضعه هو في مكانه، مانعاً فتنة كبيرة.
8. من هي أولى زوجات النبي محمد ﷺ؟
السيدة خديجة بنت خويلد، وهي سيدة تاجرة شريفة تزوجها وكان عمره 25 عاماً.
9. كيف بدأت علاقة النبي بالسيدة خديجة؟
بدأت عندما استأجرته ليتاجر بأموالها في رحلة إلى الشام، وأعجبت بأمانته وصدقه وأخلاقه.
10. ما هي الحادثة الغريبة التي وقعت له في طفولته بالبادية؟
حادثة “شق الصدر”، حيث أتاه ملكان (جبريل وميكائيل) وشقّا صدره وطهّرا قلبه من حظ الشيطان.
المصادر:
- Islamweb.net
- Alsirah.com
- Dar-alifta.org
- Alukah.net
- Alseerahalnabaweyah.com
Harika yazı devamını heyecanla bekliyorum…