هل سبق لك أن تحدثت مع صديق عن رغبتك في زيارة بلد معين، لتجد بعد ساعات قليلة عروض رحلات سياحية وإعلانات فنادق تملأ صفحتك الرئيسية على فيسبوك أو إنستغرام؟ أو ربما لاحظت أن جميع مقاطع الفيديو التي يقترحها لك “تيك توك” تدور حول نفس الموضوع الذي كنت تبحث عنه بالأمس؟ إذا شعرت بذلك، فأنت لست وحدك، وهذه ليست مصادفة أو سحرًا. إنها نتيجة عمل المحرك الخفي الذي يدير عالمنا الرقمي: خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي.
في عالم يقضي فيه المستخدم العادي ما يقرب من ساعتين ونصف يوميًا على هذه المنصات، أصبحت هذه الخوارزميات لا تكتفي بعرض المحتوى بشكل عشوائي، بل تعمل كمخرج سينمائي شخصي، يصمم لك واقعًا رقميًا مفصلاً على مقاسك. لكن هذا الواقع، على الرغم من جاذبيته، له تأثيرات عميقة تتجاوز شاشة هاتفك لتصل إلى قراراتك، مشاعرك، وحتى نظرتك للعالم. في هذه المقالة، سنغوص في أعماق هذا المحرك الخفي لنفهم كيف يعمل، وكيف يعيد تشكيل حياتنا، والأهم من ذلك، كيف يمكننا التعامل معه بوعي.

كيف تعمل خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي؟ (المحرك الخفي)
لفهم تأثير الخوارزميات، يجب أن ندرك أولاً هدفها الأساسي والبسيط: إبقاؤك على المنصة لأطول فترة ممكنة. في البدايات، كانت الخلاصات الإخبارية تعرض المنشورات بترتيب زمني بسيط. لكن سرعان ما أدركت الشركات أن الترتيب القائم على “الجاذبية” أكثر فعالية في الاحتفاظ بالمستخدمين. لتحقيق هذا الهدف، تعمل الخوارزمية كمنظم فائق الذكاء للمعلومات، معتمدة على مكونات رئيسية.

1. جمع البيانات: أنت بصمتك الرقمية
كل حركة تقوم بها هي معلومة ثمينة. فكر في الأمر: كل إعجاب، كل تعليق تكتبه، كل فيديو تشاهده حتى النهاية، الصفحات التي تتابعها، وحتى المنشورات التي تتوقف عندها لثوانٍ معدودة دون تفاعل، كلها بيانات تُضاف إلى ملفك الرقمي. تقول “مريم”، وهي طالبة جامعية تبلغ من العمر 21 عامًا: “أشعر أحيانًا أن هاتفي يعرفني أفضل من أصدقائي. بمجرد أن أهتم بموضوع جديد، يغرقني إنستغرام بمحتوى عنه. إنه مفيد ومخيف في نفس الوقت”.
2. إشارات الترتيب (Ranking Signals):
وصفة عرض المحتوى بعد جمع البيانات، تستخدم الخوارزمية ما يسمى “إشارات الترتيب” لتقرر ما الذي يجب أن يظهر في أعلى صفحتك. هذه العملية تشبه ميزانًا دقيقًا يزن آلاف العوامل في أجزاء من الثانية.
- الاهتمام (Interest): تتوقع الخوارزمية ما يثير اهتمامك. مثال عملي: إذا شاهدت ثلاثة مقاطع فيديو عن إصلاح السيارات، فإن الخوارزمية لا تفترض فقط أنك تحب السيارات، بل قد تستنتج أنك قد تكون مهتمًا أيضًا بمحتوى “الأعمال اليدوية” أو “الهندسة الميكانيكية”.
- العلاقات (Relationships): المنصات تفترض أنك تهتم أكثر بمحتوى أصدقائك المقربين. مثال عملي: منشور من والدتك يحصل على دفعة قوية، حتى لو لم يكن مثيرًا، لأن تفاعلك السابق معها يخبر الخوارزمية أن هذه العلاقة مهمة لك.
- حداثة المحتوى (Recency): يُفضل المحتوى الجديد، خاصة في الأحداث الجارية والأخبار العاجلة.
- التفاعل (Engagement): منشور يحصد 100 إعجاب في أول عشر دقائق يُعتبر “محتوى ساخنًا” وتتم مكافأته بظهور أوسع، لأنه أثبت قدرته على جذب الانتباه.
النتيجة: “فقاعة الترشيح” (Filter Bubble) نتيجة لهذه العملية، تبدأ الخوارزمية في بناء عالم رقمي مخصص لك، يُعرف بـ “فقاعة الترشيح”. إنها تعرض لك المزيد مما تحب وتتفق معه، وتقلل تدريجيًا من ظهور المحتوى الذي قد لا يعجبك أو يختلف مع آرائك. بالتالي، ومع مرور الوقت، قد تجد نفسك في غرفة صدى رقمية، حيث كل ما تراه يعزز معتقداتك الحالية، مما يجعلك معزولًا عن وجهات النظر الأخرى.
ما هو تأثير هذه الخوارزميات على حياتنا؟
إن تأثير آلية عمل السوشيال ميديا يتجاوز مجرد تنظيم المحتوى؛ إنه سيف ذو حدين يؤثر بشكل مباشر على سلوكياتنا وصحتنا النفسية، مدعومًا ببيانات وإحصائيات مقلقة.

التأثيرات الإيجابية (جانب مشرق ولكن بحذر)
- تجربة مخصصة وفعالة: لا يمكن إنكار أن الخوارزميات تجعل تجربتنا أسهل. فهي تساعدنا في العثور على محتوى يخص هواياتنا النادرة، متابعة خبراء في مجال عملنا، والانضمام إلى مجتمعات تتشارك معنا نفس الاهتمامات. يقول “أحمد”، وهو مصمم جرافيك مستقل: “بفضل الخوارزميات، تمكنت من الوصول إلى عملاء من دول مختلفة لم أكن لأصل إليهم أبدًا”.
- فرص اقتصادية: بالنسبة للشركات الصغيرة والمبدعين، تمثل الخوارزميات أداة تسويقية قوية تتيح لهم الوصول إلى الجمهور المستهدف بدقة وكفاءة عالية، مما يفتح أبوابًا لم تكن متاحة في الماضي.
التأثيرات السلبية (الجانب المظلم المدعوم بالأرقام)
- الاستقطاب وتطرف الآراء: داخل فقاعة الترشيح، نسمع صدى أصواتنا فقط. هذا التعزيز المستمر لآرائنا يجعلنا أقل تسامحًا. إحصائية: وجد مركز “بيو” للأبحاث أن حوالي 50% من البالغين في الولايات المتحدة يحصلون على أخبارهم من وسائل التواصل الاجتماعي، مما يجعلهم عرضة للتحيز الخوارزمي الذي يفاقم الانقسامات المجتمعية.
- تآكل الصحة النفسية: تخلق الخوارزميات بيئة من المقارنة الاجتماعية المستمرة. كثيرون يصفون تجربتهم بأنها “سباق لا ينتهي لمقارنة أسوأ لحظاتهم بأفضل لحظات الآخرين المصطنعة”. إحصائية: ربطت دراسات متعددة بين الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي وزيادة معدلات القلق والاكتئاب بين المراهقين بنسبة تصل إلى 27%.
- انتشار المعلومات المضللة: تُعطي الخوارزميات الأولوية للمحتوى المثير الذي يحصد تفاعلًا سريعًا، بغض النظر عن صحته. إحصائية: وجدت دراسة شهيرة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) أن المعلومات الكاذبة لديها فرصة انتشار أكبر بنسبة 70% من الأخبار الحقيقية على تويتر، لأنها غالبًا ما تكون أكثر إثارة للصدمة.
- توجيه السلوك الشرائي: الإعلانات أصبحت أكثر ذكاءً بشكل مخيف. مثال عملي: إذا أضفت حذاءً معينًا إلى عربة التسوق في أحد المواقع ثم تراجعت عن الشراء، فإن تقنيات “إعادة الاستهداف الديناميكي” تضمن أن إعلان هذا الحذاء بعينه سيطاردك على فيسبوك وإنستغرام، وربما مع عرض خصم خاص لدفعك لإتمام عملية الشراء.
الخاتمة: كيف نتعامل بوعي مع عالم الخوارزميات؟
من الواضح أن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي هي أدوات قوية ذات وجهين. هي ليست شريرة بطبيعتها، لكنها مصممة لتحقيق هدف محدد قد لا تتوافق نتائجه دائمًا مع مصلحتنا. بدلاً من أن نكون مجرد متلقين سلبيين للمحتوى الذي تقدمه لنا، يمكننا اتخاذ خطوات لنصبح مستخدمين أكثر وعيًا وتحكمًا.

إليك بعض النصائح العملية للخروج من فقاعتك الرقمية:
- كن فضوليًا واخرج من دائرة راحتك: ابحث عمدًا عن صفحات ومصادر إخبارية وآراء تختلف عن وجهة نظرك. تابع أشخاصًا من خلفيات ثقافية وفكرية متنوعة.
- تحكم في خلاصتك بشكل فعال: لا تتردد في استخدام خيارات مثل “إخفاء المنشور” (Hide Post) أو “لست مهتمًا” (Not Interested). هذه الإجراءات ترسل إشارة قوية للخوارزمية حول ما لا تريد رؤيته.
- تفاعل مع ما يهمك حقًا: بدلاً من التمرير السلبي، تفاعل بعمق مع المحتوى الذي تعتبره ذا قيمة. اترك تعليقًا مدروسًا أو شارك منشورًا مفيدًا.
- خذ فترات راحة رقمية: خصص أوقاتًا محددة خلال اليوم أو الأسبوع بعيدًا عن وسائل التواصل الاجتماعي. هذا يساعد على كسر حلقة التغذية الراجعة الفورية ويمنحك منظورًا أوسع.
في النهاية، الخوارزميات تتعلم منا. كل نقرة، كل متابعة، وكل دقيقة نقضيها هي درس نعلمها إياه. لذا، نحن لسنا مجرد متلقين سلبيين في هذه المعادلة، بل يمكننا أن نكون مستخدمين واعين، نتحكم في تجربتنا الرقمية بدلاً من أن تتحكم هي فينا، ونحولها من مخرج خفي لحياتنا إلى أداة مفيدة نستخدمها بشروطنا.
قسم الأسئلة الشائعة
1. ما هو الهدف الرئيسي لخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي؟
الهدف الأساسي هو إبقاء المستخدم على المنصة لأطول فترة ممكنة من خلال عرض محتوى مخصص وشديد الجاذبية، مما يزيد من فرص عرض الإعلانات وتحقيق الأرباح.
2. ما هي “فقاعة الترشيح” أو “Filter Bubble”؟
هي حالة من العزلة الفكرية تحدث عندما تعرض خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي للمستخدم المحتوى الذي يتوافق مع آرائه واهتماماته السابقة فقط، وتحجب عنه وجهات النظر المتعارضة.
3. كيف تؤثر الخوارزميات على الصحة النفسية؟
يمكن أن تؤثر سلبًا من خلال تعزيز المقارنات الاجتماعية، وربط قيمة الذات بعدد الإعجابات والتفاعلات، مما قد يؤدي إلى القلق، الاكتئاب، والشعور بالنقص.
4. هل يمكنني التحكم فيما أراه على وسائل التواصل الاجتماعي؟
نعم، إلى حد كبير. من خلال التحكم في تفاعلاتك، واستخدام أدوات مثل “إخفاء” و”إلغاء المتابعة”، والبحث المتعمد عن محتوى متنوع، يمكنك التأثير على ما تعرضه لك الخوارزمية.
5. كم من الوقت نقضي على وسائل التواصل الاجتماعي؟
يقضي المستخدم العادي حوالي ساعتين ونصف يوميًا، مما يجعلها جزءًا مؤثرًا جدًا من حياتنا.
6. لماذا تنتشر المعلومات المضللة بسرعة؟
لأن الخوارزميات تكافئ المحتوى المثير عاطفيًا، والذي يحصد تفاعلًا أسرع. أظهرت الدراسات أن فرصة انتشار الأخبار الكاذبة أكبر بنسبة 70% من الحقائق.
7. هل تؤثر السوشيال ميديا على الصحة النفسية حقًا؟
نعم، تربط أبحاث عديدة بين استخدامها المكثف وزيادة معدلات القلق والاكتئاب، خصوصًا بين الشباب بسبب المقارنات الاجتماعية.
8. ما خطورة أخذ الأخبار من السوشيال ميديا؟
الخطر هو الوقوع في “فقاعة الترشيح” التي تعزلك عن الآراء المختلفة، مما يزيد من الاستقطاب والانقسام في المجتمع.