في عالم يقاس فيه النجاح غالبًا بالقدرات الجسدية والفرص المتاحة، تأتي بعض الحكايات لتعيد تعريف مفاهيم القوة والإنجاز. هذه ليست مجرد قصة ملهمة، بل هي ملحمة إنسانية عن رجلين، جيا هايشيا وجيا وينتشي، قررا أن يحولا إعاقتهما إلى مصدر قوتهما، فزرعا معًا غابة بأكملها، شجرة تلو الأخرى، في أرض قاحلة شمال الصين.
شراكة وُلدت من رماد اليأس
لم تكن الحياة سهلة على الإطلاق بالنسبة لهايشيا ووينتشي في قريتهما “ييلي” بمقاطعة خبي، وهي منطقة معروفة بتحدياتها البيئية القاسية. فقد هايشيا بصره بالكامل عام 2000 في حادث عمل مروع، بينما عاش وينتشي حياته كلها بذراعين مبتورتين منذ أن فقدھما في صعقة كهربائية وهو في الثالثة من عمره. لسنوات، كافح كلاهما للعثور على عمل، ليواجها الرفض والتهميش، ويعيشا على هامش المجتمع معتمدين على مساعدات ضئيلة.
لكن، بدلاً من الاستسلام لواقعهما المرير، قررا في عام 2002 أن يصنعا مصيرهما بيديهما، أو بما تبقى منهما. استأجرا قطعة أرض قاحلة من الحكومة المحلية على ضفاف النهر، وبدآ مشروعًا بدا بسيطًا في ظاهره: زراعة الأشجار لبيع الحطب وكسب لقمة العيش. لم يكن لديهما مال، لكنهما امتلكا ما هو أثمن: الإرادة المشتركة والصداقة الحقيقية.

سيمفونية العمل: حين يكمل النقص بعضه
كان مشهد عملهما اليومي أشبه برقصة متناغمة ومؤثرة. هايشيا، الذي لا يرى، كان يمثل “ذراعي” وينتشي، بينما كان وينتشي، الذي لا يملك ذراعين، يمثل “عيني” هايشيا. وكان هايشيا يتسلق الأشجار ببراعة، مستخدمًا حاسة اللمس الحادة لديه ليجد أفضل الأغصان لعمل شتلات جديدة. بعد ذلك، يأتي دور وينتشي، الذي يستخدم قدميه بمهارة مذهلة لحفر الحفر في الأرض، وتثبيت الشتلات، ثم يرويها بالماء الذي يحمله في دلو يمسكه بين رقبته وكتفه.
علاوة على ذلك، كان وينتشي يرشد صديقه عبر الأراضي الوعرة، واصفًا له الطريق ومحذرًا إياه من العقبات. كانا معًا يشكلان وحدة متكاملة، حيث حولا نقاط ضعفهما إلى مصدر قوة لا تقهر. هذه الشراكة الفريدة لم تكن مجرد وسيلة لإنجاز العمل، بل كانت تجسيدًا حيًا للثقة والاعتماد المتبادل.
من مشروع تجاري إلى رسالة بيئية خالدة
في البداية، واجه الصديقان فشلاً ذريعًا. الجفاف قضى على محصولهما الأول من الأشجار، ولم يجنيا أي ربح. كان من السهل عليهما التخلي عن الحلم والعودة إلى اليأس، لكن شيئًا ما تغير في داخلهما. لقد أدركا أن ما يفعلانه أكبر من مجرد كسب المال. لقد كانا يعيدان الحياة إلى أرض ميتة ويحميان قريتهما من تلوث الهواء وتآكل التربة.

لذلك، تحولت دوافعهما تدريجيًا. لم يعد الهدف هو بيع الخشب، بل زراعة مستقبل أخضر للأجيال القادمة. على مدار أكثر من عقد من الزمان، وبإصرار لا يلين، زرعا أكثر من 12 ألف شجرة، محولين مساحة جرداء تبلغ 7 هكتارات إلى واحة خضراء مزدهرة.
صدى عالمي وحصاد من اللطف
لفترة طويلة، كانت جهودهما الجبارة قصة محلية لا يعرفها إلا القليل. لكن عندما انتشرت حكايتهما عبر الإنترنت، تحولت إلى ظاهرة عالمية. تأثر الملايين حول العالم بهذه القصة الملهمة عن تحدي الإعاقة وقوة الإرادة. انهالت عليهم المكالمات ورسائل الدعم من كل حدب وصوب، وأصبحوا رمزًا للأمل والمثابرة.
لم يكن التفاعل معنويًا فقط، بل أثمر عن تغيير حقيقي في حياتهما. بفضل التبرعات التي تدفقت بعد انتشار قصتهما، تمكن جيا هايشيا من الخضوع لعملية جراحية ناجحة أعادت له البصر جزئيًا في إحدى عينيه، ليرى لأول مرة الغابة التي زرعها بلمساته. كما حصل وينتشي على مساعدة لتغطية تكاليف معيشته. لقد كان ذلك بمثابة حصاد من اللطف، جازاهم به العالم على ما قدموه من عطاء صامت.
ما هو تعريف “القدرة” الحقيقي؟
إن قصة هايشيا ووينتشي تتجاوز كونها مجرد قصة ملهمة عن النجاح رغم الصعاب. إنها تدفعنا لإعادة التفكير في تعريفنا لكلمة “قادر” و”معاق”. لقد أثبت هذان البطلان أن الإعاقة الحقيقية ليست في الجسد، بل في العقل والروح. فكم من أصحاء الأبدان يعيشون بعقول وقلوب مشلولة عن العطاء، بينما استطاع رجلان، يصفهما المجتمع بـ”العاجزين”، أن ينجزا ما لم ينجزه الآلاف.
قصتهما هي شهادة حية على أن الإنسان يمتلك مخزونًا لا نهائيًا من القوة عندما يجد هدفًا أسمى من ذاته، وعندما يجد شريكًا يؤمن به ويكمله.
في النهاية، لم يزرع الصديقان أشجارًا فحسب، بل زرعا الأمل في قلوب الملايين، وأثبتا أن أعظم الإنجازات يمكن أن تنمو من أكثر البدايات تواضعًا. إن غابتهما الخضراء ستبقى شاهدة على إرثهما، لتذكرنا دائمًا بأن الاتحاد والصداقة والإرادة يمكنها حقًا أن تصنع المعجزات.
المصدر:
كالات أنباء كبرى مثل CNN و People’s Daily China عام 2015.