هل شعرت يومًا أن هاتفك يستمع إليك؟ أو أن الإعلانات التي تظهر لك تعرف عنك أكثر مما ينبغي؟ أنت لست وحدك. هذا الشعور هو العَرَض الأكثر وضوحًا لحقيقة مؤلمة: لقد تحولنا من مستخدمين للإنترنت إلى منتجات تُباع وتُشترى في سوق عملاق يُعرف بـ “اقتصاد الانتباه”. لكن في وسط هذا التشاؤم، يظهر بصيص أمل من المصدر الأقل توقعًا: الرجل الذي بنى هذا العالم الرقمي بنفسه.
السير تيم بيرنرز لي، العقل الذي أهدى البشرية الشبكة العنكبوتية العالمية (WWW) عام 1989، يعود اليوم ليعلن ندمه، ليس على اختراعه، بل على الوحش الذي تحول إليه. فبدلاً من أن يكون فضاءً للمعرفة والحرية، أصبح الإنترنت ساحة معركة شرسة على أثمن ما نملك: انتباهنا وبياناتنا. والآن، يقود بيرنرز لي بنفسه ثورة مضادة لإعادة السلطة إلى أيدينا، حركة قد تُنهي عصر احتكار البيانات إلى الأبد.
من اقتصاد الانتباه إلى اقتصاد التمكين: هل تنجح “المحافظ الرقمية” في إنقاذنا؟
لفهم حجم المشكلة، يجب أن ندرك هذا التحول الجذري. في بداياته، كان الإنترنت يعمل وفق “اقتصاد النية”؛ أنت تبحث بنية العثور على معلومة، والشبكة تقدمها لك. أما اليوم، فنحن نعيش في “اقتصاد الانتباه”. منصات مثل فيسبوك، جوجل، وتيك توك لا تهدف لخدمتك بقدر ما تهدف للاستحواذ على أطول وقت ممكن من انتباهك.
كيف يحدث ذلك؟ عبر خوارزميات إدمانية مُصممة ببراعة لتحليل كل نقرة، وكل إعجاب، وكل ثانية تقضيها في مشاهدة محتوى معين. تُستخدم هذه البيانات لإنشاء ملف شخصي دقيق عنك، ثم يتم بيع الوصول إلى هذا الملف للمعلنين. تشير التقديرات إلى أن سوق إعلانات الإنترنت العالمي سيصل إلى أكثر من 600 مليار دولار، وهو رقم مدفوع بالكامل ببياناتنا الشخصية. لقد أصبح المستخدم هو السلعة، وانتباهه هو العملة.
وهنا يأتي الحل الذي يقترحه بيرنرز لي، وهو ليس مجرد تعديل طفيف، بل إعادة بناء جذرية لفلسفة الويب. الفكرة تُسمى “Solid”، وهي منصة تهدف إلى تحقيق مبدأ استعادة البيانات الشخصية. تخيل أن كل معلوماتك – هويتك، صورك، سجل تصفحك، مشترياتك، بياناتك الصحية – مُخزنة في “محفظة بيانات شخصية” (Pod) آمنة وخاصة بك تمامًا. أنت فقط من يملك مفتاحها.
عندما ترغب في استخدام تطبيق ما (شبكة اجتماعية، متجر إلكتروني، إلخ)، بدلاً من أن تسلم بياناتك للتطبيق، فإنك تمنحه إذنًا مؤقتًا ومحدودًا للوصول إلى جزء معين من محفظتك. يمكنك سحب هذا الإذن في أي لحظة. بهذه الطريقة، تنتقل التطبيقات من كونها “صوامع” تحتكر بياناتنا إلى كونها “خدمات” تتنافس لتقديم أفضل تجربة لنا، دون امتلاكنا.
نهاية “الحدائق المسوّرة” وبداية ويب جديد
هذه الرؤية لا تهدد نموذج الربح القائم على الإعلانات فحسب، بل تهدد أيضًا ما يُعرف بـ “الحدائق المسوّرة” لعمالقة التكنولوجيا. اليوم، بياناتك على iCloud لا تتوافق مع Google Drive، وجهات اتصالك على فيسبوك محبوسة داخله. مشروع Solid، الذي تطوره الآن شركة “Inrupt” التي أسسها بيرنرز لي، يهدف إلى كسر هذه الجدران.
إذا نجحت هذه الفكرة، فستكون تجربة المستخدم أكثر سلاسة وقوة. يمكنك الانتقال من شبكة اجتماعية إلى أخرى دون أن تفقد أصدقاءك أو صورك، لأن هذه البيانات ملكك أنت وموجودة في محفظتك. هذا التحول يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاتجاه الأوسع المعروف بـ الويب 3.0 (Web3)، وهو الجيل القادم من الإنترنت القائم على اللامركزية وتقنية البلوك تشين، حيث ملكية البيانات الرقمية هي المبدأ الأساسي.
ردود الفعل والتحديات: يرى المتفائلون أن هذا هو المستقبل الحتمي للإنترنت، حيث أصبحت قضايا الخصوصية مصدر قلق عالمي. بدأت هيئات مثل هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا (NHS) وحكومة فلاندرز في بلجيكا بالفعل في تجربة منصة Solid للحفاظ على بيانات المواطنين.
لكن الطريق ليس سهلاً. يواجه بيرنرز لي تحديًا هائلاً يتمثل في إقناع مليارات المستخدمين بتغيير عاداتهم، ومواجهة شركات تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات، والتي لن تتخلى عن نموذج ربحها بسهولة.
نظرة مستقبلية: ماذا يعني هذا لك؟
ما نشهده الآن ليس مجرد نقاش تقني، بل هو معركة لتحديد مستقبل هويتنا الرقمية. نجاح هذه الثورة يعني أنك، كمستخدم، ستتحول من مجرد “منتج” إلى “مالك”. ستصبح بياناتك أصلًا رقميًا تسيطر عليه، ويمكنك حتى تحقيق الدخل منه إذا أردت، بدلاً من أن تفعل ذلك الشركات الكبرى دون علمك.
على المدى القصير، قد لا يتغير الكثير. لكن على المدى الطويل، إذا اكتسبت حركة استعادة البيانات الشخصية زخمًا، فقد ننظر إلى الوراء في غضون عقد من الزمان ونتعجب كيف سمحنا لعدد قليل من الشركات بامتلاك حياتنا الرقمية بأكملها. السؤال الآن ليس “هل” سيحدث التغيير، بل “متى”، ومن سيقوده: المستخدمون الواعون أم الشركات التي ستُجبر على التكيف؟
قسم الأسئلة الشائعة
1. ما هي المشكلة الأساسية في الإنترنت الحالي حسب مخترعه؟
المشكلة هي “اقتصاد الانتباه”، الذي حوّل المستخدمين إلى سلع، حيث تُجمع بياناتهم وتُستخدم لاستهدافهم بإعلانات وخوارزميات إدمانية لتحقيق الربح، مما أفقد المستخدمين السيطرة على معلوماتهم.
2. ما هو الحل الذي يقترحه تيم بيرنرز لي؟
يقترح نظامًا جديدًا يُدعى “Solid”، وهو عبارة عن “محافظ بيانات شخصية” (Pods) تتيح لكل مستخدم تخزين جميع بياناته في مكان واحد آمن وخاص به، ويمنح التطبيقات إذنًا محدودًا للوصول إليها بدلاً من امتلاكها.
3. كيف يمكن لهذا الحل أن يغير تجربة استخدام الإنترنت؟
سيمنحك السيطرة الكاملة على من يرى بياناتك وكيفية استخدامها. سيسمح لك أيضًا بالتنقل بين الخدمات والتطبيقات المختلفة بسهولة دون فقدان بياناتك، مما يكسر احتكار المنصات الكبرى ويعزز المنافسة والابتكار.
4. ما هو Web 3.0 وعلاقته بهذا الموضوع؟
Web 3.0 هو الجيل التالي من الإنترنت الذي يركز على اللامركزية وملكية المستخدم للبيانات. مشروع Solid هو تطبيق عملي لفلسفة Web 3.0، حيث يهدف إلى بناء شبكة أكثر عدلاً وشفافية وتمكينًا للمستخدم.
5. هل هذا المشروع مجرد فكرة نظرية أم له تطبيقات واقعية؟
المشروع له تطبيقات واقعية. شركة “Inrupt”، التي أسسها بيرنرز لي، تعمل بالفعل مع مؤسسات كبرى مثل هيئة الخدمات الصحية البريطانية (NHS) لتطبيق هذه التقنية وحماية بيانات المواطنين.