في وقت تتسابق فيه الدول لتخفيض قيمة عملاتها كوسيلة لدعم صادراتها وإنعاش صناعاتها، تقف سويسرا بثبات كحالة استثنائية تثير الدهشة. فالفرنك السويسري، الأقوى عالمياً منذ عقود، لم يكن عبئاً على اقتصاد البلاد، بل أداة عززت به حضورها على الساحة العالمية. فما سرّ هذا الاستثناء؟ ولماذا أصبحت عبارة “صُنع في سويسرا” رمزاً للجودة التي يدفع العالم مقابلها “علاوة عملة”؟
الفرنك السويسري: قوة لا تضر التصدير
على خلاف النظريات التقليدية، أثبتت سويسرا أن العملة القوية لا تعني بالضرورة خسارة في التنافسية. الفرنك السويسري لم يكن فقط العملة الأقوى خلال السنوات الماضية، بل الأفضل أداءً على مدار أكثر من خمسين عاماً. ومع ذلك، لم تتراجع صادرات البلاد بل تضاعفت، حتى باتت تمثل 75% من الناتج المحلي الإجمالي، وقرابة 2% من إجمالي الصادرات العالمية.
✳️ المثال الأبرز: شركات مثل Rolex وNovartis وNestlé نجحت في بيع منتجاتها في كل الأسواق، بفضل الجودة العالية لا الأسعار الرخيصة.
اقتصاد الابتكار والمرونة
تُصنّف سويسرا منذ أكثر من عقد كأكثر الاقتصادات ابتكاراً في العالم، بفضل استثمارات ضخمة في التعليم العملي والبحث العلمي. يُنتج العامل السويسري أكثر من 100 دولار في الساعة، وهو رقم يفوق جميع الاقتصادات الكبرى.
نظامها السياسي اللامركزي يشجع نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل أكثر من 99% من مؤسساتها، مما يجعل بيئة الأعمال مرنة وديناميكية.
صادرات معقدة وعالية التقنية
بحسب تصنيف “مختبر النمو” في جامعة هارفارد، تتربع سويسرا على قمة الدول من حيث تعقيد صادراتها، أي أن منتجاتها تتطلب مهارات وتقنيات متقدمة. هذه تشمل:
- الأدوية المتطورة واللقاحات
- المواد الكيميائية الدقيقة
- الساعات السويسرية الفاخرة
- معدات طبية عالية الدقة
أكثر من نصف صادراتها تُصنف “تكنولوجيا عالية”، مقارنة بـ25% فقط في الولايات المتحدة.
استقرار مالي واحتياطي خارجي
تحافظ سويسرا على فائض دائم في الحساب الجاري، يتجاوز 4% منذ الثمانينيات. وقد استثمرت هذه العائدات في الخارج، لتبني صافي استثمار دولي يعادل 100% من ناتجها المحلي، مما يجعلها منيعة أمام الأزمات العالمية.
مرونة أمام الأزمات
في 2015، ارتفع الفرنك بشكل مفاجئ بعد قرار البنك المركزي بإلغاء سقف صرف العملة. ومع ذلك، لم تنهار الشركات، بل تحولت تدريجياً إلى صادرات أكثر تعقيداً وأقل تأثراً بتقلبات العملة.
✳️ هذا ما يطلق عليه “التحول الذكي”، حيث تكيّفت الشركات بدلًا من المطالبة بسياسات تخفيف نقدي.
الدرس السويسري للعالم
ما تقدمه سويسرا هو درس جوهري للاقتصادات الصناعية الكبرى: لا حاجة لإضعاف العملة لكسب الأسواق. الجودة، الابتكار، والسمعة العالمية، يمكن أن تحوّل العملة القوية من عقبة إلى ميزة استراتيجية.
الفرنك السويسري لا يمثل مجرد عملة قوية، بل فلسفة اقتصادية قائمة على الابتكار والثقة والجودة. وهو يثبت أن العالم لا يحتاج دائماً إلى تكرار نفس المعادلات القديمة لتحقيق النجاح. ربما حان الوقت كي تتوقف الدول عن السباق نحو القاع، وتبدأ بدلاً من ذلك في بناء اقتصادات قوية ترتكز على الإبداع لا التضخم.
🌐 المصدر:
Financial Times
❓ أسئلة قد يطرحها الجمهور:
ما الذي يجعل الفرنك السويسري أقوى عملة في العالم؟
قوة الاقتصاد السويسري، استقراره المالي، وفوائض الحساب الجاري، إلى جانب ثقة الأسواق.
هل تؤثر قوة العملة سلباً على الصادرات؟
نظرياً نعم، لكن في حالة سويسرا، الجودة والتخصص المرتفع تجاوزت هذا الأثر.
كيف تتفوق سويسرا في الابتكار؟
بفضل نظام تعليمي تطبيقي، واستثمارات ضخمة في البحث والتطوير، وتشجيع الشركات الصغيرة.
هل يمكن تكرار تجربة سويسرا في دول أخرى؟
نعم، لكن يتطلب ذلك تركيزاً على الجودة لا السعر، وإصلاحات مؤسساتية شاملة.
