في قلب العاصمة الهولندية، شهدت شوارع أمستردام في أكتوبر 2025 واحدة من أضخم المظاهرات التضامنية مع غزة في أوروبا. ارتدى المتظاهرون اللون الأحمر كرمز للدماء التي تُسفك في القطاع المحاصر، وخرجوا بأعداد هائلة للمطالبة بوقف الحرب، ووقف التوريد العسكري، وتغيير سياسات الحكومة الهولندية تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. هذه المظاهرة التي غدت تُعرف بـ «الطوفان الأحمر» لم تكن حدثًا عابِرًا، بل انعكاسًا لتفاعل شعبي متصاعد وصدمة أخلاقية واجتماعية بين فئات متعددة.
خرج مئات الآلاف في العاصمة الهولندية أمستردام في مظاهرة غير مسبوقة تضامناً مع غزة ارتدوا خلالها اللون الأحمر ورسموا “خطاً أحمر” رمزياً للتنديد بالحصار المفروض على قطاع غزة.#غزة #أمستردام #التضامن_مع_غزة #لستم_وحدكم pic.twitter.com/0CzKbS6CuW
— عبد الحافظ معجب (@hafeed000) October 5, 2025
في هذا المقال، سنستعرض خلفيات هذه المظاهرة، نحلّل دوافعها وردود الفعل المحلية والدولية، والبحث في تأثيرها الممكن على السياسة الهولندية، مع توقعات للمستقبل.
الخلفية: لماذا الآن؟
تصاعد العنف في غزة
منذ بدء التصعيد العسكري في غزة، تصاعدت الأعداد الرسمية للضحايا المدنيين، وأضحى الحديث عن أزمة إنسانية حادة يلوح في الأفق. المراقبون والمنظمات الحقوقية يصفون ما يجري بأنه ينطوي على خروق للقانون الإنساني الدولي، ويتزايد الضغط على الدول المتورطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في النزاع.
السياق الهولندي: بين التوريد والضغط الشعبي
هولندا شاركت بشكل غير مباشر في دعم بعض المعدات العسكرية أو الأجزاء التي تدخل في تصنيع الأسلحة الموجهة لإسرائيل. ومع ذلك، الرأي العام الهولندي بدأ يعبّر عن رفض متزايد لهذه السياسات: وفق استطلاع أُجري بتكليف من منظمة PAX، فإن 63٪ من الهولنديين يرون أنه يجب على الحكومة الدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة، وأكثر من نصفهم يعتقد أنه يجب عدم توريد أسلحة لإسرائيل.
في المقابل، في القواعد الانتخابية المحافظة، هناك مقاومة قوية لأي تغيير في السياسة الخارجية يُنظر إليه على أنه “معادٍ لإسرائيل”. هذا الصدام بين ضغط الشارع ونُخب الحكم أ خلق نقطة تماس سياسية كبيرة.
حركة “الخط الأحمر” في لاهاي
قبل أمستردام، شهدت لاهاي مظاهرات ضخمة تحت شعار “Red Line” أو “ارسموا الخط الأحمر” في مايو ويونيو 2025، حيث اجتمع ما بين 100,000 إلى 150,000 متظاهر في كل مرة للمطالبة بخط سياسي واضح يُلزم الحكومة بعدم التواطؤ مع ما يعتبرونه جرائم في غزة. هذه المظاهرات لعبت دورًا تمهيديًا لكسر حاجز الخوف وإثبات أن الحراك قادر على تعبئة قطاعات واسعة من المجتمع.
الطوفان الأحمر في أمستردام: المظاهرة وكيف جرت
يوم الحشد
في أكتوبر 2025، خرج نحو 250,000 متظاهر إلى شوارع أمستردام ـ بحسب المنظمين والشرطة الهولندية نفسها. ارتدى الأغلب اللون الأحمر، وامتلأت الساحات بالأعلام الفلسطينية، واللافتات التي كتب عليها “أوقفوا الإبادة الجماعية” و“ارسموا خطًا أحمر”.
أمستردام اليوم، هولندا، التقديرات الأولى أن العدد يتجاوز 250 ألف متظاهر، العالم يتغير بصورة مذهلة، فلسطين لم تعد قضية العرب وحسب، فلسطين اليوم قضية العالم، كل العالم pic.twitter.com/a8ffOLbGnu
— جمال سلطان (@GamalSultan1) October 5, 2025
المسيرة امتدت لعدة كيلومترات، ومرّت أمام معالم بارزة في العاصمة، كما وصلت إلى ساحات واسعة حيث أقيمت كلمات حكومية وثقافية. المنظمون عمدوا إلى دمج فنون الشارع، موسيقى، وعروض بصرية لتعزيز الرسالة التصدّعية – أنَّ هذه المظاهرة ليست مجرد احتجاج لحظة بل تجسيد لرؤية أخلاقية وسياسية متكاملة.
الرسائل والمطالب
من أبرز المطالب:
- وقف فوري لإطلاق النار في غزة وفتح ممرات إنسانية تمر بها المساعدات.
- قطع العلاقات العسكرية والتجارية مع إسرائيل، ووقف التصدير والهندسة التي تُستخدم في المنظومة الحربية.
- توسيع الضغط الدولي على إسرائيل عبر المبادرات في الاتحاد الأوروبي والمنظمات الأممية.
- إعادة النظر في موقف هولندا تجاه الصراع ليصبح أكثر توازنًا وإنصافًا.
كما عمد المتظاهرون إلى لفت الانتباه إلى عدد الضحايا، الأطفال، والنساء، وإلى خطورة استمرار الحصار والتجويع كأدوات حرب ممنهجة.
التنظيم والتنسيق
المظاهرة جرى تنسيقها عبر شبكات من المنظمات الحقوقية مثل PAX، وأمنستي، وفعاليات محلية من الجاليات العربية والإسلامية، بمشاركة متضامنين من جنسيات متعددة. تم التنسيق مع السلطات لضمان انسياب المسيرة وتفادي الاشتباكات، وتم الاستفادة من وسائل التواصل للتعبئة اللحظية والبث المباشر.
ملاحظة مهمة: المظاهرة لم تكن معزولة بل كانت جزءًا من موجة احتجاجات أوسع في أوروبا ومدن عدة تضامناً مع القضية الفلسطينية.
ردود الفعل المحلية والدولية
على الصعيد الهولندي
بينما كثير من المواطنين أخذوا يعبّرون عن فخرهم بالمشاركة، ظهرت أيضًا أصوات نقدية:
- بعض استطلاعات الرأي أظهرت أن معظم الهولنديين لا يدعمون احتجاجات الجامعات أو الأقفال التي تعيق الدراسة، معتبرين أنها تؤثر سلبًا على النظام الجامعي.
- في دوائر الحكومة، هناك تردد وحذر: فبعض الوزراء يدركون أن الموقف الشعبي يتجه نحو مزيد من الضغط، لكنهم يخشون تبعات دبلوماسية أو اقتصادية إذا تم اتخاذ خطوات قوية ضد إسرائيل أو الحلفاء.
- كما أن بعض الأحزاب اليمينية هاجمت المظاهرات، ووصفتها بأنها “منحازة” أو “غير مدروسة سياسياً”.
إضافة إلى ذلك، شهدت هولندا مؤخرًا قرارات قضائية مهمة: فقد أمرت المحكمة العليا بإعادة تقييم ترخيص تصدير أجزاء مقاتلات F-35 إلى إسرائيل، نظرًا للمخاطر المرتبطة بارتكاب خروقات قانونية في غزة.
وعلى مستوى الحكومة، استقال وزير الخارجية الهولندي في أغسطس 2025 بسبب رفض الحكومات المتعاقبة اتخاذ إجراءات عقابية كافية ضد إسرائيل.
على الصعيد الدولي
المظاهرة في أمستردام لفتت أنظار وسائل الإعلام العالمية، وأصبحت عنوانًا في التقارير الدولية حول التضامن مع غزة. كنقاط ضغط على الدول الأوروبية — بعض الدول بدأت تعلق تصدير الأسلحة أو تفرض قيودًا على التعامل مع المستوطنات.
كما أن هذه المظاهرة أضافت وزنًا للمطالب بأن تُلاحق الجرائم المرتكبة في غزة عبر المحاكم والهيئات الدولية، أو على الأقل تأخذ شرعية شعبية أقوى في الضغط على الحكومات والدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
ما الذي يجعل هذه المظاهرة مؤثرة؟
- الرمزية البصرية القوية
اختيار اللون الأحمر كزي جماعي خلق وحدة بصرية لافتة: حمَم الدماء، التحذير من تجاوز الخطوط الحمراء، إشارة إلى أن حدود الصمت انتهكت. هذا النوع من التعبير البصري يُخزن في الذاكرة الجماعية ويُعيد إشعال النقاشات الإعلامية. - تجذّر القضية في الضمير الشعبي
ليس الأمر مجرد تضامن عابر، بل تحول إلى وجعٍ “عالمي وأخلاقي” كما عبّر بعض المشاركين، وهو ما جذب أفرادًا من خلفيات متنوعة: مهاجرون، شباب، أكاديميون، فنانون، وحتى مواطنون غير عرب. - توقيت انتخابي وسياسي
المظاهرة جاءت قبل انتخابات عامة في هولندا، مما زاد من قدرتها على التأثير في خطاب الأحزاب والمرشحين. حكومة تواجه مطالب متصاعدة لا تستطيع تجاهلها في سياق تنافُسي. - شبكة تنسيق متقدمة
استعمال أدوات التواصل الحديثة، البث المباشر، التضامن المصوَّر العالمي، ربط الحراك بمظاهرات في عواصم أخرى، كل ذلك عزّز من الانتشار ورفع سقف التوقعات. - الضغط القانوني والمؤسسي المتزامن
ليس مجرد حشد في الشارع، بل مرافقة هذا الحشد دعاوى قانونية وقرارات قضائية مثل مراجعة تراخيص التصدير، وتنفيذ استقالات وزارية، مما يُحول الكتلة الشعبية إلى أداة ضغط مؤسساتي أيضًا.
باختصار، هذه المظاهرة تجاوزت حدود التعبير الرمزي إلى أن تكون مدخلاً للتغيير السياسي والقانوني، لأنها جمعت بين الرؤية الأخلاقية والضغط المؤسسي والتنظيم المتماسك.
أماكن التأثير المحتملة على هولندا
- السياسة الخارجية
الحكومة قد تضطر إلى مراجعة علاقاتها مع إسرائيل، وإعادة النظر في صادرات الدفاع أو أجزاء الطائرات، وربما الانضمام إلى خطوات دبلوماسية أوروبية ضد الجرائم المزعومة. - المشهد الانتخابي
الأحزاب التي تتجاهل المطالب الشعبية قد تخسر أصواتًا، والعكس صحيح: الأحزاب التي تتبنّى مواقف أوضح تجاه القضية قد تجذب وحظوظًا أكبر في الانتخابات القادمة. - الشرخ بين الحكومة والشعب
إذا تجاهلت الحكومة هذه المطالب، قد ينشأ شعور سياسي كبير باللامبالاة أو أنّ النخب بعيدة عن الممارسة الحقيقية للضمير الشعبي، مما يُغذي حركات احتجاج مستمرة ربما بعنف أو تمدد انتخابي. - الفضاء الأكاديمي والمجتمعي
الاحتجاجات الأكاديمية قد تتكرَّر على نطاق أكبر، وقد تتوسع إلى طلبة المدارس، إلى فضاءات ثقافية وفنية، وتُشكّل رأيًا عامًا لا يمكن تجاهله. - المسار القانوني الدولي
هولندا قد تجد نفسها أمام ضغوط قانونية للمشاركة في تحقيقات أو تعاون مع هيئات دولية حول الجرائم في غزة، وهذا يُحدث تحولًا في دور الدولة من المتفرّج إلى اللاعب المحتمل في العدالة الدولية.
التوقعات والتحديات
- من المحتمل أن تستمر موجات المظاهرات “الحمراء” في مدن أخرى مثل روتردام، لاهاي، أو حتى في البلديات الصغيرة، خاصة إذا لم تلبَّ مطالب المتظاهرين بصورة محسوسة.
- قد نشهد صدامات بين القوى الأمنية والمتظاهرين إذا محاولة الحكومة فرض قيود على التجمعات أو حظر التظاهرات في أماكن معينة.
- الحمل على الحكومة لن يُقتصر على اتخاذ مواقف رمزية، بل على تنفيذ خطوات ملموسة (وقف التوريد، فرض عقوبات، دعم قانوني دولي).
- على الصعيد الأوروبي، قد تتزايد الدعوات لفرض عقوبات مشتركة على إسرائيل أو تعليق بعض الاتفاقيات، مما سيدخل هولندا في التزامات مشتركة.
- يحتاج المعسكر المؤيد للحكومة إلى إعادة صياغة رسالته لتبرير التوازن — كيف يُحافظ على علاقات أمنية وتحالفات دون أن يُفقد شرعيته أمام الرأي العام؟
- من جهة غزة والقضية الفلسطينية، مثل هذه الحركات التضامنية تضيف بعدًا دوليًا ورقابيًا إضافيًا، وقد تساهم في تلاقي الجهود الشعبية والدبلوماسية والقانونية في السنوات المقبلة.
في المجمل، الطوفان الأحمر في أمستردام ليس حدثًا آنياً مؤقتًا، بل علامة على تغيير في مناخ التعبير الجماهيري والسياسي تجاه القضية الفلسطينية في أوروبا، وهو احتمال أن يُشكّل نقطة تحول في السياسات والتوازنات في هولندا في الفترة القادمة.
المصدر:
- تغطيات إعلامية من رويترز، AP، ووسائل إعلام هولندية حول المظاهرات في هولندا أكتوبر 2025
- بيانات استطلاعات رأي من PAX عن الموقف الهولندي تجاه الحرب وسلاح التوريد
- تقارير عن مظاهرات “الخط الأحمر” في لاهاي وهولندا عامة
- معلومات عن احتجاجات الجامعات في هولندا