منذ مئات السنين، حيّر البحّارة مشهد البحار التي تضيء ليلاً بضوء باهت أشبه بالحليب، حتى إن بعضهم زعم أنه استطاع القراءة على سطح السفينة من وهج المياه وحده. هذه الظاهرة التي بدت أسطورية في الماضي تُعرف اليوم باسم البحار اللبنية، وقد رصدتها الأقمار الصناعية على مساحات تصل إلى 100 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل مساحة كوريا الجنوبية. لكن ما الذي يجعل البحر يضيء بهذه الطريقة الغامضة؟
ما هي البحار اللبنية؟
البحار اللبنية هي ظاهرة نادرة تحدث عندما تتوهج مساحات واسعة من سطح البحر بلون أبيض حليبي. ورغم أنها شوهدت عبر القرون، إلا أن العلماء لم يتمكنوا من دراستها ميدانياً إلا مؤخراً، بعد أن أصبحت صور الأقمار الصناعية تكشف مواقعها بوضوح.
إحصائياً، جمع الباحثون أكثر من 400 حالة موثقة لهذه الظاهرة، بعضها يعود إلى القرن السابع عشر. ومع ذلك، يعتقد علماء المحيطات أن عددها الحقيقي أكبر بكثير، لكنها لا تظهر إلا في ظروف بيئية دقيقة.
السبب العلمي وراء التوهج
المرجح أن السبب يعود إلى بكتيريا بحرية تُسمى Vibrio harveyi، وهي نوع من البكتيريا المضيئة بيولوجياً (Bioluminescence).
لكن ما يميزها عن العوالق النباتية المضيئة المعروفة، أنها لا تضيء فقط عند اضطراب المياه، بل تصدر توهجاً مستمراً قد يستمر لساعات طويلة.
العلماء يعتقدون أن هذه البكتيريا تستخدم الضوء كوسيلة للبقاء، إذ تجذب الأسماك لابتلاعها، لتعيش داخل جهازها الهضمي وتحافظ على تكاثرها. ومع ذلك، يبقى السؤال: لماذا يظهر التوهج بهذه الشدة وفي مساحات شاسعة؟ هذا ما لم تُجب عنه الأبحاث بعد بشكل قاطع.
الأساطير وردود فعل البحّارة
البحّارة القدماء وصفوا الظاهرة بأنها “سماء نجمية على سطح البحر”، وبعضهم اعتقد أنها رسالة من الآلهة أو نذير خطر. أما اليوم، فيصفها البحّارة المعاصرون بأنها من أجمل المشاهد التي يمكن رؤيتها في عرض البحر، حيث يغمر ضوء أبيض هادئ الأفق وكأنه بحرٌ ينبض بالحياة.
أحد البحّارة في المحيط الهندي قال في مقابلة:
“كنا نبحر وسط ظلام دامس، وفجأة تحوّل البحر كله إلى لوحة مضيئة، لم نصدق أعيننا. شعرت وكأننا نسبح في مجرة بيضاء.”
هل هي مؤشر بيئي؟
بعض الباحثين يتساءلون إن كان هذا التوهج يعكس تغيرات بيئية عميقة، مثل ازدهار أنواع معينة من البكتيريا على حساب أخرى. أو إذا كان مرتبطاً بتلوث البحار.
لكن في المقابل، هناك من يرى أن الظاهرة طبيعية تماماً ولا تعني بالضرورة خللاً بيئياً، بل هي جزء من التنوع البيولوجي المذهل للكائنات الدقيقة في المحيطات.
وجهة نظر
البحر المتوهج هو مثال حيّ على أن الطبيعة لا تزال تخبئ أسراراً لم نفك رموزها. ربما نركز كثيراً على الفضاء ونبحث عن حياة على كواكب بعيدة، بينما محيطاتنا تحتضن عوالم كاملة لا نعرف عنها إلا القليل.
ما يثير الإعجاب حقاً أن التكنولوجيا الحديثة، مثل الأقمار الصناعية والاستشعار عن بعد، جعلتنا نقترب أكثر من هذه الظواهر التي بدت يوماً مجرد خيال بحّارة.
الأساطير التي رُويت قبل 400 عام تتحول اليوم إلى حقائق علمية تُدرس في المختبرات. البحر المتوهج ليس مجرد مشهد جمالي، بل لغز علمي يفتح الباب أمام فهم جديد لعلاقة البكتيريا بالبيئة البحرية. ومع كل بحث جديد، نكتشف أن المحيطات ليست مجرد مياه مالحة، بل كتاب ضخم مليء بالقصص الغامضة التي تنتظر من يقرأها.
المصدر:
أبحاث جامعة ولاية كولورادو + Eco Portal
الأسئلة الشائعة حول البحار اللبنية
س1: ما هو البحر المتوهج أو البحار اللبنية؟
هو ظاهرة نادرة تجعل مساحات شاسعة من البحر تتوهج ليلاً بضوء أبيض حليبي يمكن رؤيته حتى من الفضاء.
س2: ما سبب هذه الظاهرة؟
السبب المرجح هو بكتيريا بحرية مضيئة تُسمى Vibrio harveyi تصدر ضوءاً مستمراً.
س3: هل تُعتبر علامة على تلوث المحيطات؟
ليس بالضرورة، بعض العلماء يرونها ظاهرة طبيعية، بينما يشير آخرون إلى احتمال ارتباطها بتغيرات بيئية.
س4: أين يمكن مشاهدة هذه الظاهرة؟
غالباً في المحيط الهندي وبحر العرب، وقد رُصدت مراراً عبر الأقمار الصناعية.
س5: هل يمكن أن تؤثر على الملاحة البحرية؟
لا تؤثر على الملاحة مباشرة، لكنها قد تُستخدم مستقبلاً لتوجيه البعثات العلمية لدراستها ميدانياً.