شهد الاقتصاد العالمي في العقود الأخيرة ظاهرة لافتة للانتباه: تزايد الديون السيادية بشكل غير مسبوق، ليتجاوز حجمها عتبة 100 تريليون دولار بنهاية عام 2024 وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي. ورغم أن الولايات المتحدة تحمل النصيب الأكبر من هذه الديون، فإنها لا تزال تستأثر بمكانة مهيمنة عالميًا من حيث الناتج المحلي الإجمالي والقدرة التنافسية، بينما تتخبط العديد من الدول النامية في أزمات خانقة ناجمة عن التزامات ديونها. في هذا البحث، نحاول فهم العوامل التي تمكّن أميركا من الحفاظ على ازدهارها برغم الديون، ولماذا تقف الدول النامية على النقيض من ذلك.
أولًا: المشهد العام للديون العالمية
1. تزايد حجم الديون عالميًا
- حجم الديون: قدّر صندوق النقد الدولي إجمالي الديون العالمية بأكثر من 100 تريليون دولار بنهاية عام 2024، وهو رقم يفوق القيمة الإجمالية للأموال المسجّلة عالميًا (نحو 80 تريليون دولار).
- معدل نمو مستمر: من المتوقّع أن ترتفع الديون إلى ما يوازي 100% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030، ما يشير إلى استمرار الاعتماد على الاقتراض كأداة تمويل أساسية في كثير من الدول.

2. الولايات المتحدة في الصدارة
- الحصة الأميركية: بلغت ديون الولايات المتحدة 36 تريليون دولار في عام 2024، ما يشكّل قرابة 34.6% من إجمالي الديون العالمية.
- رغم التحذيرات: ورغم تحذيرات سابقة من وزراء الخزانة الأميركيين بشأن مخاطر تراكم الديون، تواصل واشنطن الاقتراض. سجّل الدين الأميركي نحو 36.2 تريليون دولار عند كتابة هذه السطور.
3. الدول النامية وحجم الديون
- حصة صغيرة لكن مؤثرة: تظل ديون العديد من الدول النامية (مثل مصر والمغرب والأردن وتونس) متواضعة نسبيًا مقارنةً بأميركا، ولكنها تشكل نسبة مرتفعة من ناتجها المحلي الإجمالي.
- عبء متزايد: غالبًا ما تؤدي هذه الديون إلى استنزاف موارد التنمية الأساسية في تلك الدول، بسبب ارتفاع تكاليف الفائدة وانخفاض عوائد الاستثمار.
ثانيًا: لماذا تزدهر أميركا رغم الديون الكبيرة؟
1. هيمنة الدولار في النظام المالي الدولي
يُعزى جزءٌ كبيرٌ من قدرة الولايات المتحدة على تحمّل ديون ضخمة إلى هيمنة عملتها، الدولار، على المعاملات المالية العالمية. إذ:
- الدولار كعملة احتياط: يحوز على النصيب الأكبر من الاحتياطيات النقدية لمعظم دول العالم، ما يعني طلبًا دائمًا على السندات الأميركية.
- الأصول الآمنة: يُنظر إلى أذون وسندات الخزانة الأميركية باعتبارها أحد أكثر الأدوات المالية أمانًا، ما يتيح للولايات المتحدة تمويل عجزها بأسعار فائدة منخفضة.
- قصور البدائل: رغم بروز اليوان الصيني أو اليورو، فإن تلك العملات لم تتمكن بعد من تجاوز هيمنة الدولار على الأسواق العالمية.
2. قوة الاقتصاد والأسواق المالية
- أكبر ناتج محلي إجمالي: يبلغ الاقتصاد الأميركي نحو 25% من حجم الاقتصاد العالمي. وهذا الحجم الكبير يضمن تدفق رؤوس أموال عالمية إلى الداخل الأميركي.
- الشركات العملاقة: تهيمن الشركات التكنولوجية والمالية الأميركية متعددة الجنسيات على السوق العالمية، مثل آبل ومايكروسوفت وأمازون. هذه الشركات تضيف مزيدًا من الثقة والاستقرار للاقتصاد الأميركي.
- السوق المالية الأضخم: تعد بورصة نيويورك وناسداك من أكبر الأسواق المالية عالميًا، بقيم سوقية تتجاوز تريليونات الدولارات. هذا يعزز قدرة الولايات المتحدة على اجتذاب الاستثمارات الضخمة.

3. سياسات نقدية ومالية مرنة
- التحكم في أسعار الفائدة: يتيح الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إصدار الدولار والتحكم بمرونة في السياسة النقدية، ما يمنح هامشًا واسعًا لمعالجة الأزمات بسرعة.
- تاريخ من النمو المتواصل: رغم التقلبات والأزمات (مثل أزمة 2008 وجائحة كوفيد-19)، يبقى الاقتصاد الأميركي قادرًا على التعافي بشكل أسرع مقارنة باقتصادات الدول النامية، نظرًا للبنية القوية والتنوع الاقتصادي.
ثالثًا: لماذا تغرق الدول النامية في مستنقع الديون؟
1. ارتفاع تكاليف الاقتراض
تدفع الدول النامية معدلات فائدة أعلى بكثير من تلك التي تدفعها الدول المتقدمة، ويرجع ذلك إلى:
- المخاطر العالية: تصنيف ائتماني أقل ومخاطر اقتصادية وسياسية أكبر، ما يرفع كلفة التمويل الخارجي.
- الاقتراض بالدولار: تُضطر كثير من الحكومات إلى الاقتراض بالدولار نتيجة لعدم توفر احتياطي نقدي كافٍ، فتصبح أسرى تقلبات أسعار الصرف وارتفاع أقساط السداد.
2. استنزاف الموارد لسداد الفوائد
- ضعف الموارد المالية: تخصّص دول كثيرة جزءًا معتبرًا من إيراداتها الحكومية لسداد فوائد الديون بدلًا من الاستثمار في التعليم والصحة.
- نقص الاستثمار في التنمية: يؤدي هذا الاستنزاف المستمر للموارد إلى مزيد من الفقر وتدهور البنى التحتية، ما ينعكس سلبًا على معدلات النمو الاقتصادي.
3. العوامل البنيوية والهيكلية
- الفساد وسوء الإدارة: غالبًا ما تعجز الدول النامية عن توظيف القروض في مشاريع تنموية حقيقية، بسبب ضعف الحوكمة وانتشار الفساد.
- الصراعات والحروب: تستهلك النزاعات المسلحة ميزانيات هائلة وتُغيّر الأولويات الاقتصادية، وهو ما يقلّص فرص النمو ويستدعي مزيدًا من الديون.
- اضطراب السياسات: الافتقار إلى استراتيجيات اقتصادية واضحة وإصلاحات هيكلية يجعل العديد من الدول النامية غير قادرة على إدارة ديونها بكفاءة.

رابعًا: الديون أداة تنمية أم شكل جديد للاستعمار؟
ترى بعض التحليلات أن الديون تلعب دورًا إيجابيًا عندما تُستخدم في تمويل مشروعات البنية التحتية والتحول الصناعي. ومع ذلك، يتحول الأمر إلى فخ ديون عندما:
- تُوظَّف الديون في الاستهلاك بدل الاستثمار.
- تُخصَّص معظم العوائد لسداد الفوائد دون تحسين حقيقي في الناتج المحلي.
- تُستخدم الديون كوسيلة ضغط سياسي واقتصادي على البلدان النامية، في ظل تزايد نفوذ المقرضين والمؤسسات المالية الدولية.
يشير تقرير للأمم المتحدة في 2023 إلى أن نحو نصف سكان العالم يعيشون في دول تدفع فوائد ديونها أعلى بكثير مما تنفقه على الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة. ويصف التقرير هذه الظاهرة بأنها فشل منهجي في بنية النظام المالي العالمي الذي يستمر في تكريس فجوة التنمية.

خاتمة: تحديات قائمة وآفاق المستقبل
يبدو واضحًا أن الولايات المتحدة تستفيد من موقعها الفريد على قمة الهرم المالي العالمي، ما يمنحها القدرة على تحمل ديون ضخمة من دون الوقوع في أزمات خانقة. في المقابل، تعاني الدول النامية بسبب ارتفاع تكاليف الاقتراض، وضعف الهياكل الاقتصادية، وتوظيف الديون في بنود بعيدة عن التنمية المستدامة.
للتعامل مع هذه الإشكالية، قد تتجه الدول النامية إلى:
- تنويع مصادر التمويل وتقليل الاعتماد على الدولار.
- تعزيز الحوكمة والشفافية لضمان توجيه القروض إلى مشروعات تنموية حقيقية.
- بناء احتياطات نقدية تحميها من تقلبات الأسواق العالمية.
- التعاون الإقليمي لتخفيف وطأة الديون ونقل الخبرات بين الدول ذات الظروف المماثلة.
في النهاية، ما يحتاجه العالم هو نظام مالي أكثر عدالةً وتوازنًا، يُتيح للدول النامية مساحة كافية للنمو من دون أن تتحول القروض إلى سلاسل تقيد مستقبلها الاقتصادي. أما الولايات المتحدة، فستبقى رهينة قدرتها على إدارة الديون وإدامة الثقة في الدولار والأسواق المالية المحلية، وهي ميزة جيوسياسية فريدة قد لا تتوفر لأي قوة اقتصادية أخرى في الأمد المنظور.